بغداد/ المحرر
لقبوه بآخر رسامي “الملصق السينمائي” اليدوي في افريقيا والعالم العربي، الفنان الفطري شمس الدين بلعربي المولود في قرية عين تادلس التابعة لولاية مستغانمي غرب الجزائر، ما زال متشبثاً برسم ملصق الأفلام بالطريقة التقليديَّة، التي عافها الزمن وتجاوزها مع الثورة الرقميَّة، حتى اعتقد البعض أنه “مجنون”.
فهذا القروي راعي الأغنام ترك المدرسة مبكراً، لفرط فاقة وحاجة، شغف بالرسم وتوقف كثيراً أمام سينمات البلدة متأملاً “أفيشاتها”، مأخوذاً بألوانها الحارة و”فيكراتها” البارزة، فعكف على تقليدها واستنساخها حتى برع في تنفيذها وتميز، ثم عمل في ورش إنتاجها وتدرب على أيدي “اسطواتها” الذين ذهلوا من موهبته، فسرحوه خشية على كارهم، لم يحبط، بل واصل الرسم ليل نهار، وأرسل أعماله الى مؤسسات محليَّة وعالميَّة، حازت بعد محاولات مضنية تقييماً عالياً، لينفذ بعد ذلك ملصقات أفلام لمنتجين ومخرجين سينمائيين هوليووديين، منها: “غارا مورنال” (2019)، و”شاهد هذا” (2014)، و”شرف” (2017)، “مذبحة الحديقة” (2017)، “الأخبار” (2019)، و”الحرب الجينيَّة” (2020).
سينما الـ (الصباح) حاورت بلعربي من خلال شبكة النت، فكان هذا اللقاء:
* فن رسم الملصق غير معروف في بلداننا العربيَّة على نطاقٍ واسع، ويكاد يكون حكراً على أسماء معينة، متى اكتشفته؟
- كنت مهتماً بالرسم في طفولتي، وتشدني الألوان وتسحرني، وغالباً ما تجذبني صور نجوم السينما التي تنشرها الجرائد والمجلات، فأعيد رسمها، وبلغ بي الشغف أني ألتقط ما أراه في طريقي الى المدرسة من منشورات ملقاة على الأرض وأبحث فيها عن صورٍ أنسخها، ثم قررت أنْ أبحث عن نجومي المفضلين في سينمات البلدة، فسحرتني الملصقات وحرارة ألوانها، فكنت أقف طويلاً أتأملها وأخزنها في دماغي، لكي أستعيدها في ما بعد رسماً على دفاتري المدرسيَّة، ومن هنا بدأ شغفي بهذا الفن الجميل، ثم توقفت عن الدراسة لأسبابٍ ماديَّة، واتجهت الى العمل رساماً وبعد معاناة واستغلال لموهبتي وجدت من يساعدني ويأخذ بيدي الى عالم الفن الجميل، وعلى الرغم من شظف العيش واصلت ممارسة رسم الملصقات كهاوٍ مغرمٍ بهذا الفن الفريد.
* ألا تعتقد معي أنَّ رسم الملصق اليدوي انقرض أو كاد في العالم، بحلول التقنيات الرقميَّة، لماذا الإصرار على ذلك؟
- نعم هذا صحيح، لكنَّ الرسمة التي أَنفذها تضجُّ بالمشاعر والتقانة، وهذا ما جعلها مقبولة عند المنتجين، والملصق كما هو معروف اصطلاحاً: “مساحة من الورق مطبوعة تعلن عن فيلم”، وعلى الرغم من تصنيف الأفلام الى ثلاثة أنواع، هي الروائي، والتسجيلي، والرسوم المتحركة، إلا أنها جميعاً تحتاجُ إلى التعريف بها والترويج لها من أجل أنْ يسترد المنتجون، على الأقل، أموالهم التي صرفوها، مضافاً إليها الأرباح، لذا فإنَّ ملصقات الأفلام تعدُّ من أهم وسائل الدعاية والتسويق، وقد عرفه الفرنسيون في بدايات انطلاق السينما عام 1985، وعرفته مصر مطلع القرن الماضي، ثم انتشر في معظم الدول العربيَّة، واستمر يدوياً وتطور خلال قرن من الزمان، لكنْ مع مرور الزمن طغت التكنولوجيا الرقميَّة على صناعة “الافيش”، بينما صارت المتاحف، هي المكان الأثير لـ”الملصق” المرسوم بالطريقة التقليديَّة، فجهدت لإعادة هذا الفن الى مكانته، بطريقة عصريَّة لمواكبة الموجة الرقميَّة، وواجهت مصاعب جمة، منها: كيف يتسنى لي عرض رسوماتي على المنتجين، وإقناعهم بقيمة هذا الفن المعاصر والمميز؟، فكانت محاولات تلتها وتلتها أخرى، إذ عملت ليل نهار في ورشتي المظلمة، أخطط كل ما شاهدته في قاعة السينما، وبعد أنْ تراكمت عندي الأعمال، غامرت بإرسالها الى شركات إنتاج محليَّة وعالميَّة، وجاء الرد بالقبول، لتبدأ رحلة تحقيق الأحلام.
* وصلت رسوماتك الى هوليوود التي لا تقبل إلا المواهب الكبرى، وأنت مبتدئ وتعيش بعيداً عن المدينة في قريتك الغافية على البحر، كيف حصل هذا، ومن هو أول منتج اعترف بموهبتك، وما هو الفيلم الذي اشتغلت أول ملصق له؟
- سؤال مهم جداً، نعم بحكم تجربتي في هوليوود، فهم لا يلتفتون إلا للمواهب الكبرى والمحترفة، وحتى هؤلاء، لا يحالفهم الحظ في الحصول على فرصة العمل في كثير من الأحيان، ولكنَّ ما حصل لي هو قوة رسوماتي واختلافها عن السائد، فضلاً عن كثيرٍ من الحظ.
وكان المنتج والمخرج الأرجنتيني خوان، الذي أنتج ومثل في مسلسل مشهور بعنوان “غارا مورتال”، قد كلفني بتصميم ملصق المسلسل وفعلت، فلاقى الملصق الاستحسان ونال شهرة واسعة الى حد أنْ طلبت مني مجلة “اونكو” الأرجنتينيَّة حواراً عن مسيرتي الفنيَّة وطريقة اشتغالي، التي وصفتها المجلة بالجديدة في صناعة “الملصق” يدوياً، فتوافد علي المنتجون والمخرجون وكلفوني بإنتاج رسومات لأعمالهم.
* مشاهير ونجوم أحبوا رسوماتك، ما هي قصتك مع رسام الكاريكاتير توم باشتيل؟
- الفنان توم باشتيل هو من أشهر رسامي الكاريكاتير في أميركا والعالم يعملُ في جريدة “نيويورك تايمز الأميريكيَّة” ومجلة “نيويوركير”، اطلع على مسيرتي الفنية منشورة في إحدى المجلات الأميركيَّة، فأعجب بأعمالي كثيراً وقدم لي “الرسمة” كعربون محبة لشخصي، وبذا كنت أول فنان عربي يرسمه الفنان توم باشتيل.
* حدثنا بالتفصيل عن تقنياتك في رسم الملصق ومدى اختلافها عن التقنية الرقميَّة التي يعمل من خلالها فنانو العالم، والأهم كيف اقتنع المنتجون الأميركيون برسوماتك المنجزة يدوياً؟
- “الملصق” اليدوي، هو تصميمٌ فني يتحكم الفنان في تقنيات جوانبه الإبداعيَّة، بكل إحساس وتمعن ومبالغة في إبراز الظل والنور، بطريقة حرة تمنحك مساحة من التعبير، أما في “الملصق” الرقمي، فثمة لمسات فنيَّة لا يمكن للآلة أنْ تستوعبها لأنَّ القضيَّة هنا متعلقة بالإحساس، وعندما تثق في عملك وتبذل جهوداً كبيرة لإنجازه، فمن المؤكد ستجد من سيقيم أعمالك ويرحب بها، وهو أمرٌ ليس سهلاً، فمن الصعب التواصل مع منتجي هوليوود، إذ لا يوجد وقتٌ لديه للرد على الرسائل، لكنَّ المحاولات وجودة المنتج وفرادته يفتح لك مغاليق الأبواب، وهذا ما حصل من خلال تجربتي مع مخرجي هوليوود الذين أعجبوا بأعمالي ومنهم من أطلق عليَّ لقب “الأسطورة”، وآخرون لقبوني بـ”فنان العرب”.
* بعد كل هذه الشهرة والاهتمام العالمي، ألم تفكر في تأسيس مدرسة، أو معهد لتعليم هذا الفن النادر؟
- نعم، فكرتُ في فتح مدرسة، وأتمني أنْ أمنحَ التسهيلات في بلدي والبلدان العربيَّة، كي أفتح مدرسة لتعليم فن رسم الملصق، فأعتقد أنَّ تجربتي ثريَّة وملهمة للشباب، خصوصاً أصحاب المواهب، الذين أتمنى عليهم ألا يتخلوا عما حباهم الله من مواهب وملكات.