جواد علي كسّار
نشرت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية ان ما يعادل 73 % من الصناعات الأولية التي ترتبط بالاحتياجات الدوائية والصحية اليومية لأميركا، تقع خارج الولايات المتحدة، تحديداً في الاتحاد الأوروبي والهند، ثمّ وعلى وجه أخصّ في الصين. ثمّ عطفت ذلك إلى قولٍ لم تدعمه الأدلة، بأن نسبة ارتهان المواطن الأميركي إلى الخارج، في دوائه ومستلزمات صحته تصل إلى 93 %!
على الجهة الأخرى من المعادلة راحت نزعات حادّة متطرّفة غاية التطرّف في الرأي، تتساءل في أميركا وأوروبا، عما إذا كان من نتائج عالم ما بعد كورونا، حرب أميركية أوروبية ممكن أن تقع ضدّ الصين، يمهّد لها الآن من خلال الاتهامات المباشرة وغير المباشرة، بأن بكين وراء انتشار الفيروس، عمداً أو بدون عمد؟
ذكرتُ مراراً وأكرّر هذا الآن؛ أن ليس من وظائف هذا العمود ممارسة التحليل السياسي، بقدر عنايته بتحليل الظواهر العامة. من هذا المنطلق سيكون السؤال: هل تسمح البنية الواقعية والتكوين الوجودي للصين الحاضرة، بوقوع حربٍ مثل هذه؟ وإذا وقعت الحرب فهل تُهدّد النهضة الصينية؟
جواب هذا السؤال يتمثل بالاستحضار العميق لمعنى النهضة الصينية، التي تمدّ يدها وتمارس حضورها في أربعة أركان العالم، ففي حاضر البشرية، بالتحديد خلال العقود السبعة الماضية تبرز تجربة الصين في التنمية والبناء والاكتفاء الذاتي، وتحقيق موقع لائق على الخريطة العالمية. فقد آمن الإنسان الصيني بضرورة بناء القوّة بالمعنيين الخاص والعام، وحوّل هذه الضرورة إلى الإمكان، وهذا هو المهم، وهو ما يعنينا في هذه الأسطر.
إن التجربة الصينية في بناء القوّة تبدو كبيرة الأهمية بالنسبة للعالم العربي والإسلامي، بل ليس من المبالغة القول أنها أكثر أهمية حتى من التجربة اليابانية لأكثر من لحاظ.
على صعيد البُعد العسكري في بناء القوّة آمنت الصين بإطار نظري في فكرها الستراتيجي، يقوم على أساس إعداد جيش نظامي تقليدي ضخم مدعوم بقوات شعبية. ثُمّ برز العنصر الثاني متمثلاً بالارتكاز إلى قوّة نووية ربما كانت صغيرة بالمقارنة مع أميركا والغرب والاتحاد السوفييتي سابقاً وروسيا حاضراً، إلا أنها كافية في تحقيق الردع العملي كما حصل ذلك عملياً.
لقد استطاعت الصين التي يصل عدد سكانها الآن إلى ربع أو خمس سكان العالم (أكثر من مليار ونصف المليار إنسان) أن تتمتّع بقوّة عسكرية إنسانية (جيش من خمسة إلى ستة ملايين) وتقليدية ونووية تكفيها لردع الآخرين، وضمان موقعها في السياسة الدولية بوصفها أحد الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. على أن الأهمّ من ذلك هو ضخامة الإنجاز الصيني بالمقارنة مع قصر عمر تجربتها، إذ لم تنطلق الصين مع تجربتها الحديثة في البناء والتنمية إلا بعد عام 1949م، وفي الصناعة والتحديث إلا مع أواخر سبعينيات القرن المنصرم.
صحيح ان هناك عناصر سلبية اقترنت بالتجربة الصينية على صعيد بناء القوّة العسكرية، وصحيح ان هناك أكثر من نقد يوجّه لهذه التجربة، إلا أن الصحيح أيضاً أنها استطاعت أن تبلغ الحدّ الأدنى، وأن توفّر لنفسها الحماية والأمن والردع ضدّ عدوان الآخرين وتدخلاتهم المحتملة، وأن تحافظ على استقلالها على نحو مشهود لا خدش فيه، خاصة بعد أن تحرّرت من دائرة التأثير السوفييتي اثر القطيعة بين موسكو وبكين بدءاً من عام 1960م. بل يلحظ ان الصين نجحت في الإعلان عن قنبلتها النووية عام 1964م على نحوٍ مستقل عن الغرب وأوروبا من جهة وعن الاتحاد السوفييتي من جهة أخرى.
بكين اليوم ليست بغداد أو طهران أو دمشق أو القاهرة أو إسلام آباد أو البلقان، بحيث يكون من السهل على واشنطن والعواصم الغربية الأخرى أن تعلن قرار توجيه ضربة عسكرية ضدّها. بل إن قراراً من هذا القبيل لو حصل، يعرّض العالم فعلاً إلى حرب عالمية كبيرة.
هذا معنى ما نقوله من أن التجربة الصينية تخطّت تخوم الحدّ الأدنى، ووفّرت لنفسها الحماية عبر الردع المزدوج في القوّة العسكرية والصناعية معاً، وهذا هو جوهر النهضة الصينية.
لقد كتب تشوموسكي قبل عقود كتاب ردع الديمقراطية أو الديمقراطية الرادعة، والصين تمارس بتجربتها اليوم الردع من خلال النهضة الشاملة!