هزّات أحدثت انقلاباً في وجدان المبدع العراقي

ثقافة 2020/04/21
...

البصرة/ صفاء ذياب
 

لا ينفك الأدب والفنون ايضاً من ملاحقة ما يحدث في الحياة اليومية من تغيرات وتحوّلات تؤثّر سلباً أو إيجاباً في حياة الفنان والناس في الوقت نفسه. وإذا عُدنا إلى المراحل المؤسسة للمذاهب الأدبية، سنجد أن الكلاسيكية انبثقت بعد سيطرة الكنيسة في أوروبا، ومحاولتها لتقديم نماذج أدبية وفنية تتوافق مع رؤيتها، غير أن الأدباء والفنانين خرجوا بمدرسة حاكت ما انجزه اليونان والرومان في بداياتهما.

فبدأ المذهب الكلاسيكي، الذي لم يستمر طويلاً حتى خرج أدباء وفنانون جدد بالكلاسيكية الجديدة، ليتبعوها بعد ذلك بالرومانسية والواقعية وغيرها من المذاهب الأدبية المعروفة.
الأمر نفسه بالنسبة للتحوّلات التي طرأت على أساليب وموضوعات الكتابة، فالانقلابات التي مرّت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر أدت إلى انبثاق مفاهيم الحداثة، في حين كانت التحوّلات التي مرّ بها العالم بعد الحرب العالمية الثانية وما جاء بعدها من انفتاح كبير إلى تأسيس مفاهيم ما بعد الحداثة في الفن والفلسفة والأدب والعمارة.
وإذا نظرنا إلى واقع الأدب العراقي، فإنه لم يكن بمعزل عن هذه التحوّلات، فمن كل حرب جديدة ندخلها، تبرز أساليب جديدة في الأدب والفن على مستوى اللغة والبناء والتقنيّات، وكان من المتوقّع أن تُحدث ثورة الشباب في تشرين الأول هذه التحوّلات، إلا أن ما حدث مع انتشار جائحة كورونا أربط التوقعات كلّها، فهل نحن مقبلون على بروز أنواع أدبية جديدة في الأدب العراقي؟.
 
أنساق بالية
يقول الدكتور ضياء الثامري، أستاذ نظرية الأدب في جامعة البصرة، إن المذاهب الأدبية الكبرى والكثير من التيارات النقدية لم تكن إلّا محاولات دائبة لتوصيف التحوّلات التي حدثت في المجتمعات الإنسانية، وبالتالي لم يكن المنجز الأدبي الداخل ضمن التوصيفات المتنوعة تلك إلّا شكلاً من المشاركة في التحولات ابتداءً بما حصل في روما مروراً بمجتمعات الكلاسيكية الجديدة وصولاً إلى يومنا الراهن. وربما يرجع خلود أكثر الأعمال الأدبية  إلى احتفاظها بصور حاضناتها بعيداً عن الشكل التعبيري، فالأشكال والأنواع الأدبية في هذا الفهم هي أطر تعبيرية تشترك في أنها تضم صورة واحدة، ولذلك فإن التحولات التي نمر بها اليوم سوف تنتج تحوّلاً على مستوى المنجز الأدبي، وربّما تؤدّي إلى تجاوز أشكال تعبيرية وتذهب إلى أشكال مستحدثة تتواءم وطبيعة التحوّلات. بمعنى أن التحوّلات تمثّل انزياحاً في التفكير يؤدي إلى إنتاج جديد وربّما يحطّم فهماً ساكناً، فلكل فهم جديد بلاغته التي تستطيع التعبير عنه، وهذا ما يمكن أن نلاحظه اليوم بعد ما حدث في العراق، إذ كسر الشباب المنتفضون قناعات متحجّرة ورسموا تصوّراً جديداً حول قدرة الأجيال التي تربّت على الثقافة الجديدة على التغيير وكسر أنساق التفكير. ويعتقد الثامري أن الجيل الجديد سوف يكتب بطريقة جديدة تضيف أشكالاً لم يعرفها عالم الكتابة.
 
أفعال ثورية
في حين يرى القاص الدكتور كامل فرعون أنه ليست كل ثورة تحدث تغييراً في بنية الوعي، لكن ما حدث في الشهور الماضية مكّن المجتمع من زعزعة أطر التفكير السابقة، ليؤسّس وعياً مغايراً ارتبط بالشكل الجديد للعلاقة مع السلطة، وأفرزت الثورة فنّاً وأدباً عبّر عن تطلّعاتها في ممارسات ثقافية جاءت استجابة لما يحدث، وتجسّدت في كتابات سردية منحت مفهوم التحوّل المعنى المقصود في كل تغيير، من حيث ما يتركه من أثر في طبيعة التناول الإبداعي، رؤيةً وموقفاً، وهو ما انعكس في اللوحات التشكيلية التي رسمت على الجدران، والندوات الثقافية التي أسهمت بترسيخ الممارسة الثقافية بوصفها فعلاً ثورياً معبّراً، وما أنتج من نصوص إبداعية- في حدود ما أطلعت- تناولت الحدث الثوري كموضوع خضع للمعالجة الجمالية، ما يعني أن قيام أيّة ثورة لا يتم دون فن أو أدب يرافقها، فهما الشكل الناصع لوجهها الحقيقي.
 
خارج الدائرة
ومن وجهة نظر الروائي شهيد شهيد، فإن الاحتجاج كممارسة غالباً ما تطغى عليه النزعة الانفعالية، ولهذا يمكن القول إن أبرز مصداق للتحوّلات هو ان الوعي الاحتجاجي كان أكثر "حدّة" هذه المرة قياساً بما شهده البلد من حركات مشابهة في فترة ما بعد 2003.
مضيفاً: من المناسب القول إن هذه الانفعالية العالية كانت نتيجة حتمية في إطار التعادل والتناسب مع الخراب المضاد، في ظل هذه الفورة الانفعالية المعبأة بتداخل النشاطات التعبوية هل يمكن تحديد طبيعة الوعي الحاكم للأنماط التعبيرية المتسابقة الإعلان عن نفسها كممثّل لما حدث في العراق، لو ابتعدنا قليلاً عن المنظور العاطفي الضاغط على ذواتنا المنجذبة لكل حركة تقاوم الخراب وحاولنا تفعيل ذواتنا الظاهراتية من خلال تدقيق حزمة الأصوات القادمة من منطقة المحتجين، هل سنجد وعياً فنّياً أو أدبياً يمكن اعتماده كبديل للمركزيات التعبيرية الكبرى. الوعي الذي أنتج ما اطلعنا عليه من "تعبويات شعبوية" هل يمكن الاعتراف به كممثّل لحركة استطاعت أن تخلخل الاستقرار الذي كان يتمتع به الخراب ورموزه... بـ"رأيي، إن كل ممارسة تنتج قيمها الخاصة ولكن تلك الممارسة لا تنتج صوتها الخاص في جميع الأحوال، ما يتطلّب استدعاء صوت من خارج الدائرة الانفعالية لإعادة إنتاج قيم السلوك الاحتجاجي وفق رؤى جديدة
ومستقرة".
 
جيل التغيير
أما الناقد إسماعيل إبراهيم عبد فيشير إلى أن المتغيرات التي جرت في العراق قد نجحت- وإلى الأبد- في تصويب الخطأ البدئي للتاريخ الذي كتبه الحكّام، فما المطلوب من الفن والادب وعموم الثقافة العراقية الآن؟ 
نرى أن أوّل متطلّبات الأدب الآن أن يكون بمستوى الحدث في خرق المألوف، وأوّل ملامح هذا الخرق هو التأسيس لفكر، وفكر فلسفي وفن تقني يبني طريقة الفهم السهلة الممتعة العميقة، سواء في الإعلام أو الثقافة أو الأدب أو الفنون. وثمّة أمر مقارب لذلك، هو أن تبدأ ثورة جديدة بالنشر، تنطلق من الناشر إلى الوعي الشعبي الجديد، الى المدارس والمقاهي والأحياء الشعبية والقرى، فضلاً عن ضرورة التحدّي بالتأليف، بخلخلة أنماط الاشتراطات النمطية للكتابة عدا صواب اللغة.