عبد الحليم الرهيمي
اِعتادت الطبقة السياسية التي تولت زمام السلطة، ثم امسكت بها منذ العام 2003، بكتلها واحزابها وتياراتها ومن استجد منها، على الترويج لخطاب طائفي عرقي مناطقي فئوي مصلحي خلال موسم الدعاية الانتخابية وخلال موسم التشكيل الوزاري وملحقاته من توزيع المغانم والمواقع المهمة في اجهزة الدولة واداراتها، واذا كان الهدف الرئيس لهذا الخطاب حصول دعاته على أصوات الناخبين اولاً، ومن ثمّ حصولهم على تلك المواقع والمغانم باسم الطائفة والمذهب والعرق والدين والمنطقة في موسم التشكيل الوزاري، فقد تجاهل هذا الخطاب عمداً تقديم خطاب وطني عام يتعهد بالسعي لبناء العراق،
كل العراق، وتقدمه وازدهار وسعادة شعبه، عبر بناء مؤسسات دولة عادلة وراشدة وفق (المركب الوطني) المتمثل بالعدالة والنزاهة والاهلية الحقيقية والاخلاص وليس بالمركبات الوهمية. وإذ جرى الترويج لذلك الخطاب وتسويقه بشعارات مذهبية وطائفية وعرقية وجدت لها صدى وقبولا لدى جمهور واسع رضي بها من دون وعي حقيقي لما مورس عليه من تضليل وتعطيل لوعيه الوطني ولهويته الوطنية العراقية الجامعة. وببروز وتبلور ثقافة ووعي جديدين لدى قطاع واسع من المجتمع يرفض ذلك التضليل والتجهيل والتعطيل المنظم لوعيه وعقله وإرادته والذي تجلى التعبير عنه بحركة التظاهرات الاحتجاجية التي بدأت منذ العام 2011 وشملت خلال عدة سنوات معظم مناطق العراق حتى وصلت الى إحدى ذرواتها التاريخية المهمة في الاول من تشرين الاول من العام 2019 والتي اتسع نطاقها خلال الشهور الستة الماضية قبل ان تتوقف (مؤقتاً) بسبب وباء كورونا (Covid19) بعد ان اتخذت صفة الحركة الاحتجاجية.
وبعد مرور شهرين على اندلاعها أعلن رئيس الحكومة تقديم استقالته وخلال الشهور الخمسة التي تلت ذلك كلف رئيس الجمهورية شخصيتين لتشكيل الوزارة الجديدة حيث ارغمتهم الكتل السياسية على الاعتذار عن التكليف قبل التوجه الى البرلمان لنيل الثقة، وقد اعقب ذلك تكليف شخصية ثالثة بدت انها تحظى باجماع معظم الكتل في قصر السلام بينما اخذ مسارها يتعثر بعد ذلك رغم تأكيد المكلف على احتمال نجاحه في مهمته.
هذا التطورات المتسارعة والمرتبكة التي رافقها تدخلات خارجية بهدف التأثير على مسارها، لم تحدث إلّا بضغط وتأثير وقوة حركة الاحتجاجات الواسعة وخطابها الوطني العراقي الشامل ومطاليبها الحقة والمشروعة التي عبر عنها بوضوح ذلك الخطاب النقيض لخطاب اطراف الطبقة السياسية الذي روجت له وأرادت تسويقه في السنوات السابقة إذ نجحت بذلك بعض الوقت، لكن، ليس كل
الوقت!.
لقد تمثل خطاب الحراك الشعبي رغم بعض هفواته بالطابع الوطني العام الذي يدعو بالتغيير السلمي للطبقة السياسية للمجيء بقيادات جديدة عبر انتخابات مبكرة حرة ونزيهة وبإشراف دولي، وذلك لاقامة مؤسسات دولة مدنية ديمقراطية عادلة ومحاربة جدية للفساد واحالة الفاسدين الى القضاء واسترجاع ما سرقوه او نهبوه من ميزانية الدولة، وكذلك استرجاع ما هرب من اموال ضخمة منذ ما قبل العام 2003 حتى الان، فضلاً عن تحقيق المطاليب المحقة لجميع المواطنين العراقيين ليس فقط لابناء المحافظات التي تتصدر الحراك السياسي في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، بل ايضاً واساساً لمطاليب بناء المحافظات الغربية وكذلك اقليم كردستان
العراق.
هذا الخطاب الوطني لحركة الاحتجاجات الذي اضيف له مطلب ملاحقة ومقاضاة قتلة المتظاهرين لم يدفع اي من كتل وتيارات واحزاب الطبقة السياسية الى تغيير او تعديل ولو جزئيا في خطابها المتهاوي رغم الهزة المزلزلة التي احدثتها حركة الاحتجاج وخطابها الوطني لقد بقي (خطاب) هذه الطبقة كما هو من دون تغيير متجاهلاً خطاب حركة الاحتجاجات ومطاليبها، بعنجهية وجمود وتعجرف مروع وفي (موسم) التشكيل الوزاري الراهن كشفت مكونات هذه الطبقة عن اصرارها في الحديث عن مناطقها فحسب وعن مكوناتها الطائفية والعرقية و(بيوتاتها) وعن حجمومها فقط الخ، مع غياب تام للاهداف والشعارات الوطنية حول العمل على اصلاح النظامين الصحي والتعليمي وتحقيق الخدمات وسبل محاربة الفساد والفاسدين وسبل اعمار العراق وتوفير السكن لجميع المواطنين وكيفية تحقيق فرص العمل لجميع القادرين والتقريب بمستويات الرواتب والدخول بين المواطنين، وما هي السياسة الخارجية التي ينبغي اتباعها لمصلحة العراق وشعبه وذلك فضلاً عن اقتراح الحلول لكيفية تطوير الاقتصاد الريعي النفطي الى اقتصاد منتج ومتنوع الموارد واصلاح الوضع الصناعي والزراعي والسياحي والتجاري وغير
ذلك.
ويبدو أنّ الطبقة السياسية الممسكة بزمام الأمور تصر على تجاهل مطاليب حركة الاحتجاجات، وكذلك تجاهل ما يتطلبه العراق وشعبه من حلول في ظل التطورات الداخلية والاقليمية والدولية الهائلة.. إنّها طبقة يصح تشبيهها بـ (ماري انطوانيت) زوجة لويس السادس عشر ملك فرنسا، التي ردت على متظاهرين فرنسيين جياع يطالبون بالخبز فاقترحت عليهم (أكل البسكويت) بدلاً من ذلك !!