من أين يبدأ فهم المعنى وتحويله إلى إرادة جبّارة بوسعها أن تنقذ الإنسان من الموت أو تخلّصه في الأقلّ من السقوط في براثن اليأس والقنوط واللاجدوى؟ ينبغي في هذا المضمار التقصّي عن مفهوم المعنى جيداً بوصفه أداة للتغيير والتجديد والبعث، حين يكون هذا المعنى له قابليّة التشظّي والتحوّل والتموّج والانتشار والتأثير، فضلاً على الانتقال الحرّ من رؤية ضيّقة منحصرة في زاوية مهملة لا تلفت الانتباه،
 إلى قيمة شاسعة تنطوي على قوّة الإرادة والفعل والمصير، ومن بؤرة معتمة تؤدّي إلى حالة من الموت البطيء المتسرّب من بين الشقوق شيئاً فشيئاً، إلى بقعة ضوء ضاجّة بالنور سرعان ما تنتشر على الأجواء لتصير شمساً بلا حدود، فتقدر بذلك على أن تشعّ بطاقة خلاقة تبدّد ما أمامها من عتمات صغيرات وظلمات هنا وهناك، وتضمّ في معناها هذا طاقة هائلة على الخلاص والشروع في تشييد فضاءات الطمأنينة والمحبة والسلام داخل أعماق الأشياء، إذ لا سبيل إلى إنقاذ الحياة من أمراضها التشاؤميّة الغادرة إلا بمزيد من المعنى الخصب القادر على الخلق.

تتكوّن هذه القدرة وتتجلّى طاقاتها الخلاقة في سياق بناء العزيمة على فهم المعنى وتفكيكه وتحليل طبقاته والتسلّح بممكناته، عن طريق النظر الشامل في قضايا الممكن واستيعاب محتوياته وإدراك أطرافه ومقاربته من الجهات كلّها، ومن ثمّ تيسير معاينة الطبقات التي تشكّل فضاء المعنى ابتداءً من أدنى طبقة في سلّم المعنى إلى أعلى طبقة، بعيداً عن التعقيد والتداخل والعبور السريع من فوق الأشياء أو ما يوصف بحرق المراحل. لا بدّ من التأنّي والتحسّب والفحص والتدقيق في تلمّس المفاهيم وفركها بقوّة كي تتدفّق روائحها وتخرج ألوانها صريحةً إلى العلن، كي ندرك أنّ ذلك هو الطريق القويم والسليم للتوصّل بأفق المعنى والدخول الحرّ في أجوائه وفضاءاته، لأجل فهمه على النحو الصحيح الذي لا يخلق لبساً وتداخلاً وتقاطعاً في تفسير المعاني وتأويلها، بل يتمّ التقدّم نحو المعنى المطلوب والمناسب والحاضر والفاعل في أعلى درجات الوثوق الواعي العميق، والبرهنة العمودية والأفقية، والصدق الفلسفيّ القادر على احتواء الأشياء وتمثيل محتوياتها وتبرير دلالاتها.

لا يمكن أن تتحقّق هذه الرؤية المتفوّقة في التعاطي مع المعنى وأجوائه وظلاله وقضاياه وقيمه وتحولاته وآفاقه وعناصر تشكيله، من دون التمّرن القاسي على التسامي بالنفس عمّا يغريها ويغويها من صغائر الأمور وتوافهها، والشروع بتنقية الذات من الشوائب التي يمكن أن تَعلق بها جرّاء تمركزها حول مصالحها وشهواتها ومطامعها، فالمعنى لا يمنح نفسه حين يكون دربه مفخخاً بالأشواك والعقبات والأشنات التي لا تسمح لأقدامه بمواصلة المسير، فدروب المعنى ينبغي أن تكون سالكة وآمنة وحرّة وواضحة تحت رعاية نفس لا تضمر سوى المحبة والسلام والجمال، ومن دون ذلك فإنّ المعنى سينكفىء على ذاته ليتغذّى على ما فيها من طاقة حياة أصيلة حتى تنتهي وينتهي معها المعنى ويندثر.

يوصف الألم بأنّه مرتكز أساس من مرتكزات المعنى أداةً وإنتاجاً بوصفه الداينمو الفعّال لتحريك عناصر المعنى وتشكيلاته نحو مزيد من الأمل، إذ الألم والأمل يتكوّنان من حروف واحدة مشتركة هي (الهمزة والميم والدال) ولا فرق بينهما سوى التغيير الطفيف في ترتيب حرفي اللام والميم، وهذه ليست مصادفة بطبيعة الحال بل هي مناسبة لاختراع سبيل آخر لإدراك طير المعنى المحلّق في الأجواء بسرعة باهرة، وهو ما يجعل من الألم فرصة للاستغلال طالما أنّه على نحو ما الوجه الآخر للأمل، غير أنّ المعنى مرّة جديدة لا يمنح نفسه إلا بعد الترفّع عن استثمار الألم لتحقيق مكاسب صغيرة وجزئية تفسد قيمته، وتحطّ من كبريائه وقداسته وتنزع عنه أغلب معانية الطريّة الطازجة التي لا يمكن تلويثها.

 فلا بدّ إذن في إطار هذه الرؤية من التمرّن والتدرّب والممارسة على تحسّس مكامن القوّة والنشاط والإبداع في الذات، والقدرة على تمثّلها والكشف عن مكامن قوّتها، وتسكين حساسيتها بما يناسب توجيه الإمكانات نحو الإنتاج الباهر الباعث على مزيد من الفخر واحترام الذات، حتّى يمكن الوصول إلى الأمل بتقديم حرف الميم على حرف اللام ضمن آليّة صحيحة ومناسبة بعيدة عن الافتعال والإقحام والارتجال، الأمل هو جسر التحوّل إلى المستقبل المرجو بصرف النظر عن كميّة الألم التي يحتاجها لإكمال المسيرة.

ثمّة علاقة متضادّة بين المعنى والأرقام على مستوى الشكل الاحتماليّ أو اليقينيّ في التعامل مع الظواهر ذات العلاقة، فالأرقام تتجّه نحو اليقين الحاسم في مقاربة الظواهر وتعيينها ورسم تضاريسها وتوكيد وجودها، في حين تتمرأى فلسفة المعنى في مرايا عديدة بعد أن تحطّم المرآة الواحدة التي تشتغل عليها الأرقام، وفي كلّ مرآة من هذه المرايا تتجلّى صورة مختلفة للمعنى تُثري الصورة الكليّة الحاوية للمعنى، إذ لا يكتفي المعنى الذاهب باتجاه صنع الإرادة والخلاص بما يفتح الدال على المدلول مباشرة، ومن ثمّ يتمّ إقفال المعنى وترهينه بمدلول على قياس الدال تماماً والعودة إلى مرآة الأرقام الواحدة التي لا بديل لها.

ينبغي على هذا النحو أن لا يكون الإنسان رقماً من الأرقام التي تُرى من بعيد حين تتراصف تراصفاً شديد الانتظام وكأنّها رقم واحد، لفرط ما بينها من تشابه وتماثل ونمطية لا يمكن التفريق بينها على أيّ مستوى من المستويات، إذ حينها لا يبقى لهذا الرقم قيمة سوى أنّه يقف خلف رقم يشبهه ووراء رقم آخر لا يختلف عنه، بما ينفي أيّة خصوصيّة ممكنة أو محتملة لأيّ رقم من هذه الأرقام مهما كثرت وطال طابورها، لأنّها هنا ستفقد المعنى المطلوب بما لا يحتاج الناظر إليها العناية بتفحّص الأرقام جميعها رقماً رقماً، فكلّها تنتمي لكيان واحد متشابه إلى درجة التقليد أو ما يصطلح عليه اليوم في الثقافة الرقمية الصورية "فوتو كوبي"، ولا يتيح هذا أيّة فرصة للاختلاف حتماً ويكفي أن ترى الصورة الأولى لتعرف أنّ بقية الصور تشبهها تماماً بلا أيّ فارق محتمل.