كانت البدعة مبتغانا، او اقصى ما نحلم في سفرة مدرسية لطلاب (الغازية) الابتدائية، مازلت اتذكر تلك النشوة السحرية التي تمتلك حواسنا بوصفها مصادر نبحث فيها عن شيء ضائع لا نعرفه، لكنه مختزن فينا. سد البدعة على نهر الغراف، لا يبعد عن الغازية سوى بضعة كيلومترات، لا تزيد عن العشرة في احسن الاحوال، لكننا نرى هذه المسافة، وكان الارض لم تلد الا هنا، ولا السماء امطرت من ماء الا عند مقدم السد، حيث ينفجر الماء ليشرب العطاشى.
المشهد حول الطريق الترابي الذي تقطعه السيارة نراه بعين الطفولة مثل منظر اخضر يسبح في الضوء الحالم، وفي الزرقة الصافية يصدر صوت طليق من اغاني الفلاحين، ومنذ الازل لا تعرف اية يد اولى امتدت لتصنع هذا السحر لتهبه للانسان؟
ما من شيء يتموضع في هذه الارض الممتدة نحو البدعة الا ويشير الى تلك المسرات الصغيرة، وقد عبأت الاشرعة الريح لتمضي، ثم لا تلبث ان تتوقف عند الضفاف الموغلة برائحة الموج، والاشجار المتشبثة بالصخر والجذور. لم يعد الماضي يسكنها بعد ان لملم زمانه الشائخ، وانطوى في زاوية من زوايا ذاكرة مثخنة الجراح، (البدعة) لا تفزع نحو المجهول بحثاً عن ايما مكان، لا يبعدها عن تاريخ نسجته العصور، وهل اختفت، او تختفي يوماً ملامحها؟ وكيف، وقد توسدها هوى وتذكر مشية الغراف المتراضية.
السد لا يغيب عن الذاكرة، كنت ارقب ابي وهو يصنع انموذجاً خشبياً له، يشارك فيه بمعرض وسائل الايضاح لمدارس لواء المنتفك، او يرسمه بالوان الزيت على لوح من الخشب تارة، او على الجبس تارة اخرى، وتنال مدرسته الريفية الجائزة الاولى للمعرض بفعل هذه المشاركة، ايضاً كانت بالنسبة له الوطن الاجمل كما يبدو، وعنوان الخصوبة في حوض
الغراف.
الليل يطول، وساعاته تمضي ثقيلة، نصحو ونغفو، حتى اذان الفجر تأخر تلك الليلة الشتائية المقمرة، والريح شمالية تغري بالنوم، لكننا لن ننام! نتأهب او لا نتأهب، صوت الامهات الساهرات يوصين الابناء، يوم لم تنبت للقبائل مخالب بعد، ولا البلاد حطّ فيها طوفان الحروب : اياكم ان اجتزتم المسافات، وطوفتم بعيداً، وطويتم مدناً، أن تتذكروا ان بصمات الخطوة الاولى ستبقى هنا، هذا الاثر ومعناه الانساني يلازمني في ابعد نقطة داكنة في العالم.
خيّرنا من اعدت له الام (صرة) متاع السفر، ودسّت فيها بيضة واحدة وفي احسن الاحوال قطعة من التفاح اللبناني، محاطاً بصلواتها وتضرعاتها، وما تبقى من كحل عينيها في الليل، نتخطى مدائن الطين، نطوي سهاد الليل بالاغاني، فتغني معنا الدنيا، تلتحم الاغاني بضجيج محرك السيارة وتراب السباخ يتصاعد في اعماق
الصدور.
حالما نعبر قنطرة(المناعية) نكون قد اجهزنا على المتاع، تتولانا مشاعر سعادة لا توصف، كأننا نسمع صوت التاريخ يرتفع ها هنا، في هذه البقعة التي لا ترى بالعين المجردة على خارطة الاطلس العراقي المطبوع في ارقى مطابع هولندا.
ها انت يا ارض البدعة تستقبلين ابناءك، كما لو كنت مصايف رطيبة الظلال ومرابع لهم، وعند اعتابك بزغ فجر القوارب، انك السد في
هيبته!
فاي سفر هذا الذي تزمّين شفتيك كرهاً على اتيانه دون ان تموتي وتحيي مرات ومرات، انه درب المياه الجميلة، تعطين ماء حلواً لاهل البصرة من كتفك الايسر، عبر نهر ظلت ضفافه وحيدة تزرع الصمت، يطوف في الصحراء يعاقر وحدته، وينادم قسوة الصخر وريح السموم، كان يحمل بشرى الماء، وملاذاً من عطش، يشح في سنوات القحط، ويعاود الحنين للارواء في مواسم اخرى.
في مقدم السد تتدفق المياه عافية وزهوراً، وعذوبة في الطبع، كان البدعة مخلوق من الرقة والشوق والابتهال، لكن الماء في الجانب الثاني يلقى بترحاله متعباً، يستريح ويستكين، مستسلماً للتشعب والانشطار، يغور في المسالك والدروب، فتغيب ملامح النهر ويغيب رفيف الاشرعة المباركة....
بم تحلمين يا بدعة العصافير؟
بم تحلمين؟ وهذه الايام في دورانها طاحونة ابدية.
رحماك لا تدعي رياح اليأس تطفئ مراسيك الخيال؟
دعي ليلك الجنوبي يلملم اختلاجات صوت النواح فيك...