د. محمد فلحي
يستقبل المؤمنون شهر رمضان المبارك، هذه السنة، وسط ظروف صحية وقائية طارئة، في مواجهة وباء كورونا، الذي يهدد البشرية كلها، وقد فرضت هذه الظروف القاسية تغييرات جوهرية في عادات الناس وسلوكياتهم، من أجل الوقاية من الوباء وتجنب مخاطره، ومن ضمنها النظام الغذائي والصحي، وراح الكثيرون يتساءلون عن العلاقة بين الصيام والوباء، وهل هناك تهديد لحياة الصائمين من قبل الفيروس اللعين، وهذه التساؤلات فتحت الباب أمام تفسيرات دينية وفقهية متباينة، لا تقل سخونة عن فتاوى تعطيل صلاة الجمعة والجماعة وغلق المساجد وتأجيل الحج والعمرة، وكل هذه القرارات الصعبة تهدف لإنقاذ الأرواح ودفع الأضرار عن الناس!
الصيام فريضة ربانيّة، تعد الثانية، بعد الصلاة، من بين خمس فرائض واجبة التنفيذ على المسلمين المؤمنين، وشهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن الكريم، جعله الباري عز وجل هدى للناس، ووقفة سنوية لتجديد الإيمان في النفوس والتطهّر من الذنوب والتوبة والمغفرة، ليس من خلال الامتناع، طوال النهار، عن الأكل والشرب والشهوات فحسب، بل من خلال التقرّب إلى الله تعالى بالعبادات والدعوات وعمل الخير والصدقات.. شهر فيه ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر، وهو يشبه دورة تدريبية مركزة في ترسيخ الإيمان وتنقية الروح والجسد، من مظاهر الشراهة والطغيان والضعف والفساد والطمع.
في شهر رمضان الحالي، وضعت المرجعيات الدينية الرشيدة قرار الصيام في ميزان الأطباء، وجعلت المؤمن المكلّف يتحمّل، بعد مشاورة الطبيب، نتائج واجباته الشرعية، ومن لا تسمح ظروفه الصحيّة، فباب الرحمة الإلهي مفتوح دائماً.
أمام هذه الفرصة الإلهيّة، وفي هذه المناسبة العظيمة ينبغي أن تكون النفوس خاشعة، والقلوب صافية، والأجساد نشيطة، والأحشاء نظيفة.. ولكن كيف انعكست هذه الصورة الطاهرة النقية، لدى بعض النفوس، فتحول شهر الصيام إلى شهر المبالغة والإفراط في الأكل والشرب والكسل، طوال العقود الماضية؟!
في شهر رمضان تتوقف الأعمال، وتتعطل المصالح والدوائر، ويتغيّب الطلبة عن المدارس والجامعات، ويرقد الكثيرون في مهاجعهم، طوال النهار، رغم أن العمل نوع من العبادة، لو كانوا يعقلون!
وقبيل الغروب يستيقظ النائمون من غفوتهم، فينتشرون في الشوارع والأسواق، وتزدحم الطرقات، بالسيارت والمشاة، حيث يهجم الصائمون على محال بيع اللحوم والألبان والخضراوات والفواكه والحلوايات، ويعودون إلى بيوتهم محملين بأنواع المأكولات، لكي تتسع الموائد، عند الإفطار، وتمتد الوجبات الثقيلة، طوال ساعات الليل، حتى السحور!
وفي رمضان أيضاً، لا يجد الكثير من الفقراء والأيتام والأرامل والعاجزين ثمن وجبة طعام بسيطة، في حين ينهمك جيرانهم في الشواء والطهو والقلي والطبخ، وترتفع روائح الأطعمة الشهية في الفضاء، لتكشف عن جشع الإنسان الأزلي وظلمه لأخيه!
وعند ردهات الطوارئ في المستشفيات، نجد الأطباء والممرضين، في حالة إنذار، حتى الصباح، لاستقبال أفواج من ضحايا التخمة وعسر الهضم وارتفاع السكر وضغط الدم، نتيجة التهام كميات غير معقولة من اللحوم والشحوم والحلوى والعصائر، حيث يعجز الجهاز الهضمي عن الدوران، وتنفجر الزوائد الدودية!
ومن جانب آخر تتكدّس، أمام البيوت وعلى الأرصفة أكياس سوداء، معبّأة بأنواع الأطعمة الفاسدة، التي لم تتسع الكروش لاستيعابها، فأصبحت وجبات دسمة للحيوانات والحشرات، وبخاصة في ظل غياب عمال التنظيف وامتلاء حاويات القمامة واختفاء سيارات النظافة، لأسباب رمضانية غير مجهولة!
في رمضان.. يتغير سلوك الكثيرين، في الشارع والبيت ومكان العمل، وتصبح تصرفاتهم عدوانية وحركاتهم عصبية، وقد يتشاجرون مع الناس، أو مع زوجاتهم لأسباب تافهة، وقد ذكر أحد شيوخ المساجد، في خطبة الجمعة، أن نسبة الطلاق ترتفع في شهر رمضان!
وفي رمضان.. تعود الكثير من الأثرياء على السفر إلى الديار المقدسة، لأداء العمرة، وهي زيارة مستحبة للحرمين الشريفين، ولكنها ليست فريضة واجبة، وأن الزكاة والصدقة أفضل منها، أو يتوجه بعضهم إلى إحدى العواصم العربية، مثل القاهرة، من أجل التمتع بالأجواء الرمضانية المباركة، حيث تنصب الخيام وتقام الولائم، ويحضرها الميسورون الذين يستطيعون شراء بطاقات الدخول الغالية، لكي يتشرفوا بمشاهدة نجوم التمثيل ونجمات الطرب والرقص!
وفي رمضان.. وليس في غيره من الشهور، تتسابق المحطات التلفزيونية في تقديم وجبات من المواد الرمضانية المتنوعة، من بينها البرامج الدينية الجادة، إلى جانب سيل منهمر من المسلسلات الجديدة والمسابقات الغنائية والشعرية، والإعلانات الدعائية الغذائية، والكاميرات الخفية.. وما خفي كان أعظم!
أخيرأً.. هل غيّرت كورونا عاداتك الرمضانية، وهل ما زلت تأكل وعائلتك في رمضان أكثر من بقية الشهور، ولم تبادر إلى دفع الزكاة وإخراج الصدقة، ولم تطعم مسكيناً أو يتيماً جائعاً.. وانشغلت عن ذكر الله بالسهر على مشاهدة مسلسلات التلفاز أو مواقع التواصل.. إذاً، فأجرك على الله، وحماك الله من كل شر، وكل سنة وأنت طيب.