القرآن نصّ عربي، ومن ثَمَّ فللغة العربية وآدابها وظيفتها التي تنهض بها إزاء هذا النص. هذه حقيقة واضحة لا ريب فيها، يزيدها أهمية دعوة الإسلام نفسه إلى تعلّم هذه اللغة من زاوية أنها كلام الله: «تعلّموا العربية فإنها كلام الله الذي كلّم به خلقه».لكن تبقى هناك مسافة كبيرة بين التوفّر على موضع الحاجة من قواعد اللغة وآدابها في فهم معاني القرآن ودرك مراميه، وبين اختزال القرآن إلى نصّ لغوي والتعامل معه على هذا الأساس. في نطاق الفهم الأوّل تكون اللغة وآدابها محض آلة كالمنطق بالنسبة للتفكير بشكل عام، وكأصول الفقه بالنسبة إلى الفقه وكالرجال بالنسبة للحديث وهكذا. أمّا في نطاق الفهم الثاني فتتحوّل اللغة وآدابها إلى هدف مطلوب بذاته، بحكم أن القرآن نفسه هو نص لغوي.
كما تكون العربية وعلومها وآدابها في نطاق الفهم الأول محطة عابرة يتجاوزها الإنسان بعد أن يستنفد طاقاتها، في حين ليست هي كذلك مع الفهم الثاني، حيث تملأ اللغة جميع اهتمامات الإنسان وتشغل آدابها وعيه ومداركه، وتطغى على جميع أبعاد عنايته بالقرآن وتصبغها بلونها، مادام يعي القرآن نصاً لغوياً وحسب.
الحقيقة أن هذه النظرة التي تتعاطى مع اللغة وآدابها على نحو مضخّم يستغرق جلّ الاهتمامات، موجودة عند القدماء كما عند المحدَثين، وربّما هي التي عناها الغزالي وحذّر منها قبل قرابة ألف عام، بقوله: «وقد انتهى الجهل بطائفة إلى أن ظنّوا أن القرآن هو الحروف والأصوات» (جواهر القرآن، ص 36).
لكن حتّى من دون هذا التمييز في بُنية القرآن وحقيقة الظاهرة القرآنية، فما أكثر من انجرّ من الماضين إلى علوم اللغة وآدابها وأطنب في التصنيف بها وتحرّي تفصيلاتها، حتّى إذا ما انتهينا إلى المحدَثين، نجد أن هذه النَزعة اكتسبت مع بعض الاتجاهات الحديثة والمعاصرة، منحىً تنظيرياً يسجّل صراحة أن: «القرآن نص لغوي» وحسب، وإنه لا مفهوم لهذا النص خارج طبيعته اللغوية، ذلك: «إن البحث عن مفهوم "النص" ليس في حقيقته إلا بحثاً عن ماهية "القرآن" وطبيعته بوصفه نصاً لغوياً» (مفهوم النص، ص 9). يُساوق هذا النص بصراحة بين ماهيّة القرآن وطبيعته وبين بنيته اللغوية، ويجعل أحدهما مساوياً للآخر.
في نطاق رؤية كهذه تؤسّس لنفسها على هذه المبادئ من الطبيعي أن يكون البحث اللغوي بضروبه المختلفة، هو الطريق الوحيد المُفضي إلى إدراك القرآن ووعي الحقيقة القرآنية، ويتحوّل إلى ضرورة لا مناصّ منها، وليس إلى مجرّد مرحلة ومحطّة أو في الأقل خيار من بين عدة خيارات كلها مؤدية ومشروعة. نقرأ في نص دال يعبّر عن هذه الرؤية بجرأة وصراحة: «إن اختيار منهج التحليل اللغوي في فهم النص والوصول إلى مفهوم عنه، ليس اختياراً عشوائياً نابعاً من التردّد بين مناهج عديدة متاحة، بل الأحرى القول أنه المنهج الوحيد الممكن من حيث تلاؤمه مع موضوع الدرس ومادته»، ومن ثّمَّ فإن «الدراسة الأدبية ومحورها مفهوم "النص" هي الكفيلة بتحقيق "وعي علمي"» بالقرآن دون بقية المناهج والدراسات (المصدر السابق، ص 10، 25).
أجل، القرآن نص لغوي، هذه حقيقة لا يُستراب بها، بيد أن ذلك لا يسوّغ العكوف على اللغة وحدها، لأن لهذا النص آفاقاً مديدة تشمل الكون والإنسان والحياة، وله معارف تعمّ عالمي الغيب والشهادة. لذلك لا معنى من تضخيم النزعة اللغوية وما يصاحبها من اهتمامات تفصيلية تتراكم وتعلو، حتى تحجب معارف القرآن ومعانيه وتتحوّل إلى غاية مطلوبة بذاتها.