الشيطان يضحك أخيرا

آراء 2020/04/27
...

محمد جبير
 
هبطت أسعار النفط في تطوّر يراه خبراء الاقتصاد والمال والأسواق أنه غير مسبوق، وهم على حق في ذلك، لأنّهم ينظرون إلى الأزمة من زاوية الاختصاص المهني، إلّا أنّ هناك من ينظر في زاوية أبعد من زوايا نظر أهل الاختصاص البحت، ويدخل الأزمة في فضاءات ومديات أوسع بأفق ورؤى متشابكة ومتضادّة ومتعاضدة أحياناً تدخل في إطار نظرية الاحتمالات وعلم المستقبليات، أو تدخله في إطار التداعيات الآنية واحتمالات المتغيّر الآني الظرفي ومستجدّات وتطوّرات مسار الحدث أو الأحداث.
لا بدّ من تتبّع خيوط الأزمة المتداخلة والمتشابكة فيما بينها، وتفكيك تلك الخيوط وإعادتها إلى مسارها الطبيعي من أجل أن نفهم موقعنا من هذه الأزمة، وكيف يمكن أن ننظر من خلالها إلى المستقبل في وضع الحلول الكفيلة لمعالجة ما يمكن معالجته من أزمات مقاربة أو مماثلة أو مشابهة، ومن لم يتّعظ من أزمات الحاضر لايمكن أن يضع خطط المستقبل.
فقد خرجت من رحم أزمة كورونا، أزمة وبائية نفطية، لتقضي بدورها على اقتصاديات الدول الريعية وفي مقدمتها العراق، الذي تتضرّر من قرارات أوبك الأخيرة في تخفيض الإنتاج والتي كانت حصته مليونا و600 ألف برميل، لتنخفض صادراته من أربعة ملايين برميل إلى مليونين و500 ألف برميل يوميا، بما في ذلك حصة إقليم كردستان، بمعنى آخر، على الإقليم أن يتقاسم المخاطر مع الحكومة الاتّحادية.
هذا التخفيض في الإنتاج إلى جانب انخفاض الأسعار سيكون مضاعفا على ميزانية الدولة العراقية التي تعاني من عجز يقدر بـ "80" مليار دولار، ولم تستفد من الدروس السابقة في انخفاض أسعار النفط وتذبذبها وعودة ارتفاعها إلى فتح صناديق سيادية لادّخار الفائض من الموارد النفطية في حال التعرّض إلى أزمات مشابهة بغية تسيير الأمور اليومية وعدم تعطيل مسارات الحياة.
يدرك أهل السياسة والمال مدى فوائد هذه الصناديق السيادية، ولامجال لذكرها في سياق هذا الموضوع الذي يسعى إلى رصد الظاهرة وما رافقها من إشكالات وتعنّت في المواقف، فقد كان متوقّعاً أن يثمر اللقاء الروسي السعودي في منتصف الشهر الماضي إلى اتّفاق في تخفيض الإنتاج إلى رفع الأسعار إلى مستوى يقترب من الأربعين دولارا كحدٍّ أعلى، إلّا أن ذلك اللقاء لم يثمر عن نتائج إيجابية، مما زاد في تدنّي أسعاره إلى مستويات غير مسبوقة، ومنها عقود بيع النفط الآجل لشهر ايار لنفط تكساس بأقلّ من سعر تكلفة الإنتاج ليدقّ ناقوس الخطر في العالم، ولاسيما الدول النامية والفقيرة التي رهنت حياتها واقتصادياتها بهذه السلعة الخاضعة للمضاربات لتكون دولاً هشّة.
 
أين يكمن الخطر؟
خفضت أوبك الإنتاج بعد أن شهدت الأسواق التخمة في المعروض، وكانت نسبة التخفيض تقترب من عشرة ملايين برميل يوميا، بينما حاجة السوق العالمية هي 25 مليون برميل، ولم تلتزم دول العشرين بالتخفيض، وإذا ما عدنا إلى لغة الأرقام، فإنّنا سنرى من هو المستفيد من هذه الأزمة الاقتصادية؟ ومن هو الخاسر فيها؟ وكيف ستحافظ بعض الدول على استقرار اقتصادياتها؟.
منذ أن اجتاح كورونا العالم بعد خروجه من الصين إلى إيران وأوربا لتضرب العالم كله، أخذت الأسعار النفطية بالتدهور، وهذه حقيقة يدركها العالم أجمع ولاجديد فيه، ويشكّل الإنتاج النفطي السعودي والروسي 17 % من الإنتاج النفطي العالمي، بينما يشكّل الإنتاج النفطي الصخري والرملي الأميركي 12 % من الإنتاج العالمي، إلّا أنّ ما يميّز الولايات الأميركية هو أنّها منتج ومستهلك للنفط في الوقت ذاته، وخطت خطوة كبيرة في استيراد النفط وتخزينه وفق تلك الأسعار الهابطة، إذ بلغ المخزون النفطي الأميركي ذروته "635" مليون برميل، مع توفّر اقتصاد داخلي قوي قادر على مواجهة الأزمات وتجاوزها، لاسيما تلك الأزمات الطارئة من جراء وباء كورونا التي عطلت الحياة الاقتصادية وزادت من نسب البطالة في قطاعات العمل.
فقد أسهمت العوامل الطبيعة من تضخّم الحال فضلاً عن الكساد في الحياة العامة جراء الوباء، وهو ما أدّى إلى زيادة المعروض المنتج وانخفاض أسعاره إلى السالب من أجل تقليل الخسائر إلى أقصى حدٍّ ممكن، وهو الأمر الذي دفع دول الأوبك في مطلع هذا الشهر إلى تخفيض الإنتاج بغية استقرار أسعار البيع، إلّا أنّ هذا التخفيض سوف يضرّ ميزانيات تلك الدول إلى الثلث، وهذا ليس بالأمر الهيّن، لاسيما للدول الريعية التي تعتمد موازنتها على إيرادات النفط فقط.
إذ نلاحظ بعض الدول، والتي لديها وفرة مالية من النقد الأجنبي الذي تحتفظ به في صناديق سيادية، سوف تستطيع تسيير أمورها في الأشهر المقبلة من دون أن تؤثر في مسيرة الاقتصاد الوطني، وهناك دول بإمكانها أن تسحب من تلك الصناديق وتديم عجلة اقتصادها لأكثر من سنتين حتى تستقر أسعار النفط وتعويض ما تمّ سحبه من تلك الصناديق، ومن بين تلك الدول السعودية.
 
نحن والعاصفة
أين نحن من كلّ ما يحدث في العالم من متغيّرات وتقلّبات؟ هذا السؤال يفترض أن لايغادر أيّ مفصل من مفاصل الدولة الكبرى أو الصغرى من الوزارات والمؤسسات والدوائر إلى مستوى الأسرة، فالجميع مشمول بمخاطر هذه الأزمات والحروب الاقتصادية الكبرى، فقد تفكّك الاتّحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي من دون أن تُطلَق عليه رصاصة واحدة، وانهارت أنظمة ودول في مطلع القرن الحالي من جراء سياسة الفوضى الخلّاقة، والآن لا بدّ من تغيير خريطة قوى الصراع الدولية من القطبية الثنائية إلى القطبية الواحدة إلى التعددية القطبية.
هذه الأزمات والصراعات والتنافس الدولي سوف تؤدّي بالضرورة إلى انفجار الوضع الدولي، وهذه المرة ستكون ساحته في القارّة الآسيوية، وليس كما حدث سابقا في الحرب العالمية الأولى أو الثانية اللتين تمركز محورهما في أوروبا، وقد تكون ملامح وبوادر التأزّم قائمة في الشرق الأوسط في التنافس الأميركي الروسي على المنطقة باستخدام مناطق النفوذ والتضادّ والتقاطع بين طرفَي الصراع الأميركي الروسي في اعتماد روسيا على إيران، وأميركا على السعودية، لتكونا العصا التي تؤجج النار في المنطقة، وما الاستفزازات البحرية الأخيرة إلّا إشارة لإشعال اللهيب.
وبعيدا عن التأزّم، ماذا يمكن أن يفعل العراق ويجنّب نفسه النار التي تحرق الأخضر واليابس، بعد أن بدأ الاقتصاد العراقي يئنّ من الضربات المتلاحقة وتعطيل الحياة الاقتصادية أو توقّفها جراء حكومة تصريف أعمال يومية ومكلف ثالث لم يشكّل حكومته بعد وتتعرض إلى ضغوط من كتل وأحزاب سياسية وترث تركة كبيرة من خراب السنوات السابقة، فضلاً عن الأزمات الحالية التي تثقل كاهل أي حكومة تريد معالجة الإشكالات الآنية المستجدة وليس القديمة المستعصية مع وجود كتل وأحزاب تكبّل هذه الحكومات بقيود ثقيلة، ولكن حتى في ظلّ هذا الوضع الشائك فإنّ من يريد أن يعمل في حقل الألغام يمكنه العمل بحذر لتقليل الخسائر والخروج من الأزمات بحلول آنية وفق خطط قصيرة الأمد، وحلول مستقبلية بعيدة الأمد تضمن للأجيال المقبلة حقّها من الثروات التي يزخر بها 
العراق.