تمظهرات اللغة في موت الأم

ثقافة 2020/04/29
...

د. جاسم حسين الخالدي
 
تمثلُ روايةُ ( موتِ الأمِ) لحنون مجيد، نقلةً مهمةً في منجرِه السرديّ، موضوعًا وبناءً ولغة، وهي في الوقت نفسِه، امتدادٌ لمنجزِه السابقِ، إذ إنّه لم يخرج عنّ الموضوعاتِ الاجتماعيّة، التي أصبحت علامةً فارقةً في ما كتبه، فضلًا عن زج شخصيته في متن الرواية، ويتمثلُ ذلك، عبر توظيف ثقافته الايديولوجيّة، والسياسيّة، والسرديّة، والشعبيّة، في متن الرواية، وهو ما جعل لغته تتباين بين اللغة الشعريّة/ الرومانسية، واللغة المباشرة ، حين يتحول الحديث 
إلى موضوعات أخرى، ذات توجهٍ سياسيٍّ، مثلًا، ويبدو أن مرد ذلك؛ يعود لطبيعته نفسه، وولعه بالجانب الشعري، فقد كانت بدايته مع الشعر، ولكنه سرعان ما اتجه لكتابة القصة؛ بسبب قرب القصيدة من القصة ، وكانت حصيلته عددًا من الأعمال القصصيّة. 
فلم يستطع أن يخرج من هذه اللغة التي ميزته عن غيره من الكُتّاب العراقيين، وصارت جزءًا من نزعته في كتابة القصة والرواية على حدٍّ سواء. ولعل من المفيد القول – هنا- إنَّ تلك السمات اللغويّة التي ذكرتها، تمثلُ طابعًا عامًا في ما كتبه، ولكنه من جهةٍ أخرى، لا يفرضها على شخصياته فرضًا، وإنما يبثها، في متن عمله، بحسب طبيعة الشخصية التي يتخيّرها من الواقع المعيش، وهو ما يمكن تلمسه في ( موت الأم)، فاللغة الشفافة البسيطة التي تقترب من المورد الرومانسي، تبدو على لسان الراوي المشارك، (رأفت) التي ابتدأت الرواية، باسترجاعه للأحداث التي مرت بها عائلته، وألفت بؤرة الموضوع الاجتماعي، فيها، تلك العائلة التي تتكون من: عبد الغفور( الأب)، وليلى ( الأم)، وآمال ( الأخت)، ورأفت ( الأخ)، ونزهت (الأخت) التي تزوجت ولم يبق لها دور في الأحداث، إذ انقطعت عنهم مع زوجها إلى كركوك، ثم هاجرت من بعد إلى كندا. 
 تبدو تمظهرات لغته الرومانسيّة، في المشاهد الوصفية ، أو المشاهد التي تهيمن عليها تقنية التداعي الحر، ففي الأولى، يصف رأفت حالة أمّهِ المريضة، ليلى، بعد أن اعتلها المرض، وجعلها لا تقوى على نشر ملابسهم على حبل الغسيل، والصمت الذي لفَّ البيت كله:» صمت، لا شيء سوى الصمت، ولعل أشق ما يواجهه فتى في نهاية الرابعة عشرة، أو بداية الخامسة عشرة من عمره، هو صمت الأم على نداء ابن موجوع». ص29. 
وبهذه اللغة التي امتاحت من الواقع بقدر، ومن الخيال والشعر بقدر آخر، يواصل رأفت سرد ما حدث بين سعاد، وعبد الغفور، والموعد المنتظر بينهما، الذي كان إيذانًا بالاقتران بينهما، يصور رأفت هذا اللقاء، بالقول:» وضعت كفيها على المنضدة طائران يستدعيان طائرين يحومان قريبا منهما. اشتبكت الاجنحة في وصال ناعم، يشفُّ عن لهيبٍ كامن الرغبة لا يطفئها المطر الذي انصبَّ متهاود منذ أن رطّب شفتيه بحلاوة شفتيها». ص 181 
 أما الفتور او المباشرة التي تلف لغته السردية حين يكون الحديث عن السياسة وما جاورها من موضوعات أخرى كالتاريخ مثلًا، فيمكن أن نقف عليه، في حديث 
رأفت عن سيرة والده ( عبد الغفور) وهو حديث يغدو مباشرًا، وتغيب عنه تلك 
الحرارة التي شخصناها في وصفه، أو تداعياته التي يستعيد فيها ذكرى مكان أو امرأة.  يقول رأفت: عارض مبادئ الانظمة القمعية بشدة ودفع مالًا كبيرًا لكي لا يخدم في الجيش الشعبي، سحب يده من الثورة الأيرانية، بعدما ضربت حزب توده، وفككت خلاياه، وعد الحرب العراقيّة الايرانيّة مؤامرة أمريكيّة أدواتها محليّون، لضرب الشعبيين العراقي والايراني، وبسط النفوذ الأمريكي على دول الخليج». ص33. 
 إنَّ كتابات حنون مجيد أو غيره لم تكن إلّا مزيجًا من ثقافتهم، التي يبثونها في شخصياتهم؛ بل ثمة كتّاب يرون أنفسهم في شخصيات بعينها، بل هي شخصياتهم الحقيقيّة يدفعون بها في أعمالهم السرديّة، ، وربما حنون مجيد واحد منهم، فقد نجد لهذه الثقافة مساربها في الرواية؛ بل إن الرواية في شقها السياسي، تعبر عن 
مواقف حنون مجيد نفسه من الحروب والسياسات الطائشة للحقبة السياسيّة السابقة، وما تبعها من ويلات، وقتل ودمار وفساد. 
إن تلك الآراء السياسيّة التي أطلقها رأفت، ونسبها لأبيه، ربما لا تكون آراء الروائي نفسه، لكنها تدور في فلك ما يؤمن به، وتشير بطرف خفي إلى يساريته وتقدميته. 
 ولا تخلو تلك اللغة المنداحة من فيوضات الرومانسية، من إضاءات فلسفيّة، ينثرها الروائي هنا أو هناك، وهي تمثل جملة ثقافته وقراءتها في متون الفلسفة، فعلى سبيل المثال، تأتي هذه العبارة على لسان 
رأفت، وهو يتحدث عن أمه بوصفها ضحيّة: إنها ضحيّة. وكم من أمثالها ذهبوا كذلك، فكلُّ حياتها وأمثالها هباء، كل حياة بريئة ذهبت مظلومة هي تعاسة مطلقة، وكل حياة باطلة ذهبت سعيدة، هي شقاوة مرّت دونما حساب». ص10. فهذه العبارة تصور 
مبلغ الأسى الذي نال قلب رأفت، لا بوصفه الراوي المشارك فحسب؛ بل عبر من خلالها عن مدى تبرمِه من أن لا تكون ليلى هي الوحيدة ممن عاشت حياتها وماتت من دون أن تحصل على شيء، فثمة أخريات يشاركنها هذه النهاية المأساويّة.