التلفّظُ والكتابةُ

ثقافة 2020/04/29
...

محمّد صابر عبيد
 
ما أن يتمّ اقتراح هاتين الممارستين البشريتين حتى يتبادر إلى الذهن مباشرة المسافة التي تفصل سرعة التلفّظ عن بطء الكتابة، ولاسيّما حين نعلم علم اليقين أنّ الإنسان بوسعه أن يمارس صنعة التلفظ ويباشرها متى شاء وكيف شاء من دون حدود أو حواجز أو موانع، إلا ما يتعلّق منها بالتقاليد والأعراف والعادات والأخلاقيات العامة التي تحكم حركة المجتمع وتضبط موازينه.
 وتمنع بموجب ذلك ألفاظاً بعينها حفاظاً على سلامة الرأي العام والمزاج العام والذوق العام والوعي العام والثقافة العامة، وهذا الاستعداد الفطريّ الدائم للتلفّظ والحكي والكلام يجعل هذه الممارسة طبيعيّة وفوريّة وسائدة ومباشرة لا تحتاج إلى معاناة كبيرة لإنجازها، فبمجرّد أن يتحرّك اللسان ويستدعي ذخيرته من الألفاظ ويرتّبها على نحو آليّ مناسب يحصل مباشرة فعل التلفّظ بلا جهد كبير وبلا عناء. أمّا الكتابة فهي بلا أدنى شكّ شيء آخر تماماً يحتاج إلى مؤهّلات ومهارات ومعارف وآليّات ومستلزمات وأعراف وتقاليد ومناسبات كثيرة، لا بدّ لها جميعاً أن تحتشد في سياق واحد مشترك كي يبدأ التفكير بإنجاز الممارسة الكتابيّة على النحو المطلوب، فضلاً على وجوب حضور الاستعداد والقدرة وضبط المهارات الكتابيّة الأساسيّة على أمثل وجه، والاعتماد على رصيد نوعيّ من الألفاظ يحرسها الوعي والثقافة والخبرة والموهبة والتجربة، والكتابة في جوهرها عمل شديد الحساسيّة والبلاغة والاقتصاد والوعي والدراية والدربة في التعبير والتشكيل، لذا يمارسها الكثير بدافع الرغبة أو الاعتقاد الخاطئ بإجادة الكتابة لكن لا ينجح فيها سوى القليل، وهذا القليل هو من يمتلك الأسلوب الخاصّ الذي يستطيع بوساطته أن يلفت نظر مجتمع القراءة إلى ما يكتبه 
بإعجاب وانبهار بحيث يستحقّ المتابعة الدائمة.
لعلّ من أبرز القضايا التي ينبغي أن يلتفت إليها الكاتب الحاذق عدم تساوي ما يرويه من موضوعات تستحق الكتابة مع ما يتحوّل بين يديه في ما بعد إلى كتابة فعلاً، فالرواية/الحكاية مهما كان موضوعها هي في نهاية الأمر ليست سوى سرد شفاهيّ يغيب في لحظة التلفّظ بها، ومن ثمّ تغيب روايته أو حكايته بلا نقد ولا حساب عسير كما هي الحال في فعالية الكتابة، إذ الكتابة تخلّد المدوّن في استمرارية قابلة للمراجعة والنقد والرصد والمعالجة طالما أنّ الكتاب موجود بين يدي قارئه، إذ تبدأ الفكرة الذاهبة نحو مصير كتابيّ على شكل حكاية تتردّد في ذهن الكاتب أولاً، وقد يرويها لنفسه ولمن حوله أكثر من مرّة على سبيل الاختبار والتثبيت والتبلور والنضج بوصفها مرحلة أولى للتكوّن والتبنين، لكنّها حين تقترب من حدود الكتابة يجب أن تتنازل عن كامل إرثها المحكي وتشرع باتجاه تكوينٍ آخر مختلف، فاللغة حين تُكتَبُ تتحوّل إلى بنية خلقٍ لها نواميسها وأعرافها وقوانينها الخاصّة في ما يُصطلح عليه «الأسلوب»، والأسلوب هو الرجل كما قال الفرنسي «جورج بوفون» مع أنّه كان عالماً نباتياً وليس أديباً، بحيث تكون الحكاية التي كانت تُروى شفاهاً على لسان الراوي عنصراً واحداً من شبكة عناصر تؤلّف النصّ/الكتابة.
وإذا ما اكتفى الكاتب دون ذلك بكتابة ما كان يرويه لنفسه والآخرين 
بلا زيادة أونقصان فهذا يعني أنّه بقي في حدود الشفاهيّة ولم ينتقل إلى مرحلة التدوين، ويعني أيضاً أن لا حاجة لمن سمع الحكاية شفاهاً أن يقرأها على شكل مكتوب من جديد لأنّه في هذه الحالة لن يحصل على الإضافة الواجبة في طبقة الكتابة، ليكون المؤلّف راوياً حتى في كتابته وليس كاتباً له لغة وأسلوب ونصّ وخطاب.
يقع في هذه الإشكاليّة كثير ممّن يتوهمون أنّهم كتّاب حين يدوّنون حكاياتهم مثلما يروونها تماماً، ويظلّون على هذه الحال حتى وإن أصدروا عشرات الكتب من غير أن يتحوّلوا من المرحلة الشفاهيّة «اللفظيّة» إلى مرحلة التدوين «الكتابة» حقاً، وذلك لأنّ وعيهم وخبرتهم وذكاءهم وتجربتهم المتواضعة لا تسمح لهم التفريق الحاسم والأصيل والضروريّ جداً بين ما يصلح لروايته شفاهاً في ظرف حكي معيّن ومحدّد، وما يصلح للكتابة بوصفه نصاً خلاقاً ينهض على مقومات كتابية وأسلوبية ومنهجية ورؤيوية نوعية خاصة، ويخلطون بين الأمرين على نحو يفسدهما معاً بحيث يبقى الراوي راوياً شفاهياً حتّى وهو ينقل روايته من عتبة اللسان إلى عتبة اللغة.
إنّ أداة الكتابة الأولى هي اللغة بما تنطوي عليه من مهارات أساسيّة لا بدّ من ضبطها على نحو كامل كي تنبني الخطوة الصحيحة الأولى في رحلة الكتابة. وبلا ضبط احترافيّ دقيق لهذه المهارات فإنّ الرحلة تتوقّف قبل أن تبدأ وينتهي كلّ شيء، لكنّها حين تحضر بكامل قوّتها تسي ر الرحلة في مسارها الصحيح لتنبري مقومات أخرى لا بدّ من حضورها أيضاً كي تتكامل الصورة الكتابية المطلوبة، فاللغة وحدها مهما كانت بارعة وماهرة وعارفة لا تكفي بلا تجربة أصيلة تستحقّ أن تتحوّل بوساطة هذه اللغة إلى نصّ في حدود التدوين، وإلى خطاب في حدود الإشهار والتداول والعلاقة مع المتلقّي.
قلْ ما تشاء حين ترغب بأن تروي ما تريد في لحظة حاجتك للقول والسرد والحكي لأيّ سبب كان، لكنّ ليس بوسعك أن تفعل ذلك حين تنوي الكتابة، فمجتمع الإصغاء لما ترويه شفاهاً غير مجتمع القراءة الذي يتلقّى كتابتك بوصفها نصاً، معادلة تحتاج إلى قدرٍ من الوعي والموهبة والفهم والإدراك والحساسية وإجادة أصول اللعب في الحالين، فاعتماد التلفّظ على خاصيّة الارتجال والتفاعل مع جمهور المستمعين لا يتيح لك الوقت الكافي للإيجاز والتركيز والصوغ، بينما الكتابة تحتاج مساحة كبيرة من الوقت والتأمّل والمراجعة والتفكير وإعادة الصياغة وتسخير الإمكانات الكتابية كلها، لأجل الوصول إلى أمثل حالة يقتنع الكاتب فيها ببلوغ ما كان يأمله من وراء تجربة الكتابة، إذ هي الحامل المركزيّ للتجربة وقد أُحيطتْ بمجموعة من الأعراف الكتابية والأسلوبية والبلاغية على نحو يجعلها قابلة للتداول، فما أن يشرع الكاتب بالكتابة حتى يجتهد في استحضار ما يختزنه من إمكانات وطاقات وقدرات ومزاج وموهبة كي يصل بها إلى أعلى درجات الكفاءة والصنعة، وهو ما لا يستلزمه التلفّظ مهما انطوى على أهمية حكائيّة وجدوى سرديّة عالية ومثيرة.