الوباء والدولة الوطنيَّة

آراء 2020/05/02
...

د. عبدالله حميد العتابي
 

عالم ما بعد كورونا ليس كعالم ما قبله ،عبارة كثيراً ما ترددت خلال الاسابيع الماضية على ألسنة اساتذة العلاقات الدولية، عقب الانتشار الكبير للفيروس في ارجاء المعمورة . ولفت انتباهي ما كتبه وزير خارجية الولايات المتحدة الاميركية الاسبق هنري كيسنجر في مقال له بصحيفة وول ستريت جورنال ، ان جائحة كورونا ستغير النظام العالمي للابد.
كان تفكك الاتحاد السوفييتي في اواخر كانون الاول 1991 ايذاناً لاميركا لتأسيس  نظام عالمي جديد  احادي الهيمنة ، بمعنى ادق صناعة وتشكيل العالم على وفق الرؤى والمصالح الاميركية ،فبرز مشروعها العالمي والذي سمي العولمة ، وكان من نتائج ذلك جعل العالم قرية عالمية على اساس الغاء كل الموانع الجغرافية والاقتصادية والجمركية ،امام تدويل النظام الرأسمالي الليبرالي ، وتصدير الانموذج الثقافي لها .وكان ابرز خصائص العولمة تراجع دور الدولة الوطنية وعجزها عن مواجهة الشركات متعددة الجنسية التي حلت محل الدولة الوطنية في كثير من دول العالم . وراهن البعض على ان العولمة السياسية ستغير في ضوئها مفهوم الدولة والسيادة عن طريق تغيير الولاء للوطن والامة واحلال ولاءات جديدة محله من نوع نهاية الايديولوجيا و نهاية التاريخ  و القرية الكونية مما يصلح استخدامه لجميع الدول ومثل تلك السياسة ستؤدي بالنتيجة الى الغاء سيادة الدول وانتهاك حدودها واستغلالها. وقد وظفت الولايات المتحدة المؤسسات القارية والدولية مثل : صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والاتحاد الاوروبي ومنظمة التجارة الدولية لتحجيم الدولة الوطنية لحساب احادية القطب 
الاميركي .
لقد اثبتت ازمة كورونا بدلائل ملموسة زيف ادعاءات انصار الفكر العولمي والمروجين له ، فعلى سبيل المثال ، لا الحصر، لم تبد ست وعشرون دولة من دول الاتحاد الاوروبي اي دعم طبي ملموس لإيطاليا في محنتها في مواجهة الفيروس ،اذ عجزت الاخيرة في التصدي للاحتلال الوبائي لها ؛بسبب ضعف منظومتها  الصحية .  لاحظ المتابعون باستغراب فرض حكومات الولايات المتحدة والمانيا وفرنسا قيوداً على حركة السفر والتجارة، ضاربين بعرض الحائط ابرز شعارين للعولمة وهي : فتح الحدود والتجارة الحرة التي طالما تشدقوا بها.  بل ان الدول الثلاث نفسها فرضت قيوداً صارمة على تصدير اجهزة الفحص الطبي واقنعة الوجه، متجاوزين ما تمليه عليهم التزامات العولمة وتعهدات الاتحاد الاوروبي.
وبقى ان اقول ، ان جائحة كورونا علامة فارقة في التاريخ العالمي ،وان العراقيين امام مرحلة تاريخية في تثبيت الدولة الوطنية  التي ترتكز في اصلها على المواطنة الحقة ، لاسيما ما لمسناه من قدرة الدولة العراقية على احتواء الوباء وتحجيم انتشاره بجهود العراقيين انفسهم ، وبإمكاناتهم المحدودة لو قارناها بالدول الكبرى التي فضحت كورونا هشاشتها وعجزها عن احتواء الفيروس .