الداء وسلطة الاستشفاء في نظرية الخطاب عند {ميشيل فوكو}

ثقافة 2020/05/03
...

د: عالية خليل إبراهيم
 
 
 
في خضم رهاب الخوف الذي يصيب العالم حاليا جراء تفشي وباء كورونا مع الاقرار بعجز المؤسسات الطبية العالمية ضخمة الانفاق والتمويل عن إيجاد دواء شاف للمرض بات الكل يطرح أسئلة الداء السياسية والثقافية وصار العالم بحاجة لخطاب ثقافي عن المرض يمنح الأفراد والمؤسسات أفقا حواريا أوسع لتداول أسباب المرض وإجراءات الوقاية منه وتحليل السياق التاريخي والاقتصادي الذي ظهر فيه ومن ثم إمكانية التخفيف من وطأته على الشعوب .
لن تطول رحلة البحث والتقصي طويلا فالاسم الذي يبرز للواجهة هو الفيلسوف الفرنسي(ميشيل فوكو) الذي تناول المرض فكريا وثقافيا من خلال دراسته العلاقة بين السلطة والمعرفة في ضوء نظرية الخطاب التي اضطلع بتأسيسها الخطاب بوصفه اجراءً تحليليا للنصوص ونظاما للأرشفة وجمع الوثائق في سبيل كتابة تاريخ جامع لعلوم الانسان الاجتماعية واللسانية والنفسية والأنثروبولوجية، لقد أراد (فوكو) للمعرفة أن تتميز عن العلوم من خلال بناء شجرة لأنساب أشكال السلطة المؤسسة التي تنهض العلوم وتتطور في سياقها التاريخي، خصص كتابه " تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" لدراسة داء الجنون وعلاقته بالسلطة السياسية والدينية والاقتصادية في العصر الكلاسيكي(عصر النهضة) ووضح دور السلطتين السياسية والدينية في تقنين النظرة الطبية لهذا المرض وطرائق معالجته، وقد اختار مرض الجنون تحديدا لعلاقته المباشرة بالخطاب الثقافي الغربي الذي عرف بنبذ الماورائيات والدعوة لسلطان العقل على الروح مع بداية عصر النهضة. 
بدأ (فوكو) كتابه بالكلام عن الأوبئة والأمراض التي تطبع كل عصر بطابعها ومن الممكن دراسة النسق الثقافي للعصر في ضوئها، لقد اختفى مرض الجذام في نهاية القرون الوسطى من العالم الغربي وخلف انحساره مئات المشافي على طول أوروبا وعرضها والتي كانت مخصصة للحجر على المرضى وإقصائهم عن المجتمع وصار لزاما أن يرث العصر الذي جاء بعده تلك  المستشفيات ويستثمرها في علاج أمراض أخرى وأهمهما الجنون" فمن أجل استيطان الشواطئ التي أخلاها المصابون بالجذام منذ فترة طويلة تم تعيين شعب بكامله يشكل في نظرنا خليطا غريبا من الكائنات سيعزل دفعة واحدة تلك الفئة  في فضاءات الحجز " ،في التفكير الرأسمالي غالبا ما يكون الربح والاستثمار وإعادة تدوير قوة العمل والنقود حاضرة حتى في التعامل مع أكثر القضايا حساسية وحراجة في الحياة وهي المرض ففكرة الحجر التي نشأت في أوروبا مع انتشار وباء الجذام امتدت إلى عصر النهضة لتعزل فئة الحمقى والمجانين في محاجر نائية وقاسية لأسباب استثمارية وأخرى ثقافية من أجل التحكم في ظاهرة الجنون التي نبذتها الحساسية الجديدة لعصر النهضة التي رأت في الجنون ظاهرة ممتدة الجذور بالماورائيات وعالم الغيب واللامعقول، يقول" ضمن هذا الصراع الخفي الذي كان قائما بين تصلب الكنيسة ومرونة البرلمان سيبدو إنشاء المستشفى على الأقل في بدايته انتصارا برلمانيا، إن الأمر يتعلق في جميع الحالات بحل جديد، فلأول مرة يتم استبدال الاجراءات الإقصائية السلبية في كليتها بإجراءات الحجز، إن العاطل لا يطرد ولا يعاقب بل يتم الاعتناء به على نفقة الدولة ولكن على حساب حريته الفردية فما بينه وبين المجتمع قام نظام ضمني قسري له الحق في الأكل ولكن عليه أن يقبل الإكراه البدني والأخلاقي الذي يمارسه الحجز"/88، بهذا الحفر المعرفي المشوق يتوغل(فوكو) في شرح واستقصاء علاقة خطاب المرض بالسلطة في ذلك العصر  فالدولة قد أخذت بالتمدد على حساب الكنيسة وهذه بدورها أخذت تنظم سلوك الأفراد والمؤسسات الطبية بالقانون والاقتصاد، ولا يخلو  الكتاب من سياحة نقدية  لمقاربة النصوص الأدبية الشعرية والمسرحية والقصصية التي كتبت عن الجنون وأثرت بدورها على نظرة العصر لهذا المرض ومنها رواية(سفينة الحمقى) التي أوحت بفكرة عزل الحمقى والمخبولين في قارب يجوب السواحل بعيدا عن الأرض، لا يعد مرضا وبائيا مثل الجذام ذلك يوكده(فوكو) وإنما يمثل إعاقة عقلية مؤقته من الممكن التعامل معها بطريقة أكثر رحمة وإنسانية وهذا ما أدركه العالم الغربي في وقت لاحق حين الغى أماكن الحجز تلك مع بداية القرن التاسع عشر.
 إذا كانت القرون الوسطى التي ظهر فيها وباء الجذام مثلت عصر هيمنة السلطة الدينية التدين ، والعصر الكلاسيكي الذي ظهر فيه الجنون هو عصر العقل، فماذا نطلق على العصر الذي ظهر فيه وباء( كورونا)؟ هل يمثل العصر الراهن ردة ثقافية وطبية إلى القرون الوسطى استنادا إلى عجز المؤسسات الطبية ذات الطابع التجاري والاستهلاكي عن إيجاد العلاج ولجوء شعوب العالم إلى الروحانيات لدرء خطر الوباء إضافة لظهور الحجز الصحي بوصفه ممارسة عقابية وإقصائية قبل أن علاجية فنطلق على عصرنا (القرون الوسطى الجديدة)؟، ربما من الأنسب أن نطلق على عصرنا (عصر الصين) لأن المرض ظهر فيها ومثل وجها من الوجوه المضمرة لمعجزة العالم الاقتصادية كما توصف الصين التي شهدت نموا اقتصاديا غير مسبوق في الثلاثة عقود الماضية جعل منها دولة عظمى اقتصاديا وسياسيا لكنها ما زالت تعاني من تخلف في  المنظومة الطبية والثقافة المجتمعية ما جعلها تصدر للعالم  فيروسها القاتل بعد أن كانت تصدر له ما يحتاج من سلع استهلاكية.
  -ينظر معجم تحليل الخطاب باتريك شارودو - دومنيك منغنو، ت: عبد القادر المهيري، حمادي صمود،المركز الوطني للترجمة،تونس،56.
  -تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ت : سعيد بنكراد، 78.