تعني السيادة استقلال الدولة وحكومتها وقراراتها عن سلطة وإرادة أية جهة داخلية او خارجية، وتمتع هذه الدولة والحكومة ذات السيادة بسلطة عليا، مطلقة، شاملة، عامة، دائمة، موحدة (غير منقولة، وغير مجزّأة، وغير منقوصة او محدودة) تمارسها على اقليمها ورعاياها. ويعرف المفكر الفرنسي "جان يودان 1530ـ1596 " السيادة بأنّها السلطة العليا التي يخضع لها الرعايا وجميع المواطنين ولا تتقيد بالقانون) .ويميز (بودان) بين السيادة والسلطة، فالسيادة عامة ومطلقة ودائمة وواحدة وهي للدولة، والسلطة محدودة ومقيدة ومؤقتة ومجزأة وهي للحكومة. كما يرى"بودان"
ان للسيادة تجليات تتمثل في:
ـ ان السيادة ترتبط بسيد / امير /حاكم واحد.
ـ ان سلطة القانون تمنح الشرعية للامير صاحب السيادة.
ـ ان سلطة الامير تكمن في تشريع القوانين ومتابعة طرق تنفيذها.
ـ ان سلطة الامير تكمن في تحديد الولاء.
وهكذا جاءت افكار" بودان" عن السيادة المطلقة غير القابلة للتخلي عنها، ولا تحويلها ولا تجزئتها. وبناء على هذا فإنّ خير انواع الحكومات عند بودان "هي حكومة سلطة ملكية وراثية مطلقة يحكمها عاهل وراثي يعرف جيداً احتياجات رعيته، ويعمل على تلبيتها" وهي فكرة قريبة جداً من نظرية المستبد العادل/المستنير التي سيعيد احياءها لاحقاً فولتير والمفكرون الالمان) ويطلب من رعيته مقابل ذلك، بل يفرض عليها، ان اقتضى الامر، الطاعة المطلقة لسلطته المطلقة ذات السيادة واحترام قراراتها تفاديا للفوضى العارمة التي كانت مستشريه في القرن السادس عشر.
قد يكون (ميكيافيلي) ومؤلفاته اليوم يفوقان(جان بودان) ومؤلفاته شهرة بكثير، اذ دخل كتاب(الامير) في الوعي العام، سلباً او ايجاباً، كجزء من الفكر السياسي، فيما يبدو(بودان) ولا سيما كتابه الاشهر )الكتب الستة في الجمهورية) غائباً تماما، وبالكاد يعرفه احد خارج نطاق الجامعات والحلقات الفكرية الضيقة. ولكن فكر(بودان) اصبح مرجعاً اساسياً لبعض اهم نتاجات الفكر السياسي والممارسات السياسية القومية في العالم منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم نتيجة ورثته الذين استخدموا فكرة السيادة وتبدلاتها .
وانطلاقاً من فكرة (بودان) التي تفيد بأن "قوة الملك في المملكة تشبه قوة الاب في البيت". فقد رسم بودان ومن جاء بعده صورة السلطة متلازمة بمفهوم السيادة بشكل يعبر عملياً عن تطلعات اصحاب النزعة القومية الصاعدة في القرن السادس عشر .
بيد أنّ هذا التصنيف البوداني للسيادة لم يقف صلداً امام تحولات الفكر والواقع على الصعد المحلية والدولية (الاقليمية والعالمية) وظلت أطروحة السيادة حتى يومنا سؤالاً سجالياً لايعرف الثبات ولا يعيش الديمومة والاستقرار. فحتى اليوم مازال المفهوم البوداني العتيق للسيادة يكافح خصومه دعاة العولمة التي اكتسحت الحدود الوطنية ليصبح المال باستخدامه معولماً والارهاب بانتقاله معولماً والافكار بانتشارها معولمة والسلع بانتاجها واستهلاكها معولمة وهكذا انماط الحياة (المأكل، المشرب، الملبس) وكذلك المعلومة والسلوكيات بمختلف ضروبها السياسية وغير السياسية معولمة تنتقل بلا حدود
معلومة.
إنّ تحولات السيادة البودانية المطلقة الى سيادة العولمة المطلقة هي حقائق لايمكن تجاهلها او نكرانها او تجاوزها غير ان الخشية، كل الخشية، تكمن في مستقبل هذه الحقائق، وتلك الخشية هي الاخرى حقيقة لايمكن تجاهلها ايضاً. فكيف السبيل الى التعامل مع حقائق نخشى من
مستقبلها؟.
إنّ السيادة الاطلاقية البودانية كانت قد سببت حروبا ونزاعات وقطيعة بين القوميات والامم حتى كادت شعوب العالم لاتطيق تداعياتها بعد ان اختنقت بها... وفي الوقت ذاته فإنّ البديل وتجلياته هو الآخر يتوسّل الحروب والنزاعات والهيمنة المطلقة على مصائر ومقدرات شعوب العالم من قبل مراكز رأسمالية متوحشة. فالشركات المتعدية الجنسيات والمتلاعبة على الجنسيات التي قلبها وعقلها الولايات المتحدة الاميركية تريد لها فقط الاستحواذ على سلطة حكومة عالمية مطلقة التصرف، الامر الذي يقتضي التعامل مع السيادة بما لايتجاوز ارادة شعوب العالم في العيش الكريم والمشترك في ظل انظمة حكم سياسي قائمة على الاقرار بالتعددية والتنوع وسائرة على نهج يضمن الحريات والعدالة الاجتماعية.
عندها سيكون الحريص على بيته الوطني منفتحاً لا منغلقا ولا مقاطعا وبالمقابل ستكون البيوت الوطنية الاخرى متعاونة معه لا مخاصمة لبيته. وهنا لاخشية على اسرار وهويات وحقوق بيوت العالم حتى لو اصبح قرية كونية صغيرة يتمتع كل بيت فيها بسيادة حرياته والعدالة الاجتماعية بين ابنائه.
ولا خشية على السيادة بعد ذلك طالما ان القرارات والخيارات (بالتنازل او بالتمسك بالحقوق).
مقترنة بإرادة كل شعب قادر على التعبير عن خياراته بحرية مطلقة قائمة على المساواة والعدالة الاجتماعية. فالحرية المطلقة القائمة على العدالة الاجتماعية في كل وطن هي السيادة التي ينبغي ان تسود بدل السيادة البودانية المطلقة وسيادة العولمة
المطلقة.
ونحن هنا نراهن على حركات الشعوب الاجتماعية غير المنفلتة المنظمة بسلطات منتخبة ممثلة بالمؤسسات وسلطات شعوب موازية غير ممثلة بالمؤسسات ليصبح عالمنا عالم سيادة شعوب لا عالم السيادة البودانية المطلقة (عالم شريعة الغاب) ولا عالم سيادة العولمة المطلقة (عالم غاب بلا شريعة) لان الشعوب لا تستأهل ماضيها في السيادة البودانية القومية العنصرية المتقاتلة ولا تستأهل حاضرها في سيادة عولمة نيوليبرالية رأسمالية متوحشة.