{الرّواية العرفانيّة} نتاجُ عَلاقة التصوف بالسرد الحديث

ثقافة 2020/05/04
...

د. عبّاس آل مسافر
 
تواجهنا ونحنُ نطالع كتب التأصيل النقديّ عددٌ من المقولات النقديّة قديمة ومعاصرة تربط نشوء نظرية البلاغة والنقد العربيين بالتوجه الأيديولوجيّ الدينيّ، وترى أنَّ البلاغة العربيّة وملامح الفكر النقديّ العربيّ قد نشآ في أكناف "الاعتزال" وانَّ أصحاب هذا الاتجاه الدينيّ كان لهم دور كبير في تكوين النظريّة الأدبيّة العربيّة، إذ يُرجع بعض النقاد مثلاً ، نشأة الفكر البلاغيّ ونظريّة البيان العربيّ إلى صحيفة بشر بن المعتمد المعتزليّ المتوفي (210)هـ ، وانّ الجاحظ المتوفي (255) هـ صاحب البيان والتبيين ورسائل التربيع والتدوير والبخلاء، 
  كان من أبرز العقليّات الجدليّة المعتزليّة، ثُمّ ظهر من بعدهما كلٌّ من الجرجانيّ (471) و الزمخشريّ ((476هـ)، وغيرهم وهم "معتزلة" أيضاً، وقد حاول نقادٌ آخرون ربط تطور الشعر العربيّ الحديث والقديم بتنامي الأحداث والصراعات، وظهور تيارات سياسية، كما فعل شوقي ضيف حين أرجع بروز أغراض شعريّة معينة قديمة وجديدة واضمحلال أخرى إلى ظهور الحزب الزبيريّ والشيعيّ والخوارج وغيرهم في العصر
 الأمويّ. 
 أقول بأنَّ الربط بين صعود اتجاه دينيّ محدّد وبين صنوي الأدب، وهما علما النقد والبلاغة، هو يشبه الربط الذي يدور الآن بين ربط بروز بعض أنواع الرواية الحديثة وبين التطرف الإسلاميّ، الذي انتج لنا جنساً روائياً استمد لغتهُ ورؤيتهُ السرديّة وشخصيّاته وحيواتهم الخاصة وطبيعة علاقتهم بالمجتمعات استمدّ ذلكَ كلّه من التاريخ الصوفيّ لطائفة من المسلمين لبسوا الخشن وتقشفوا في العيش مع بسط اليد لبعضهم من مال وجاه وسلطة، فزهدوا بسقط المتاع، وعاشوا البساطة وعدم التكلّف في شؤونهم، مدمنين فكرة التوحد مع الذات الإلهيّة وأصبح همهم 
التسامي. 
وإذا تصفحنا أغلب نصوص تلك "الروايات" نجد أن الروائيين الذين تورطوا في كتابة هذه الرواية حاولوا اجترار "أسلوبيّة النثر الصوفيّ" وديباجات وآراء وردت في مؤلفات أغلب رجالات الطرق الصوفيّة أو المولويّة.  
السؤال الذي يبرز لنا، هل كان لصعود التيارات الإسلاميّة المتشدّدة أو المعتدلة  التي ظهرت ونمت في بعض الدول الإسلاميّة من بداية القرن العشرين دور في ظهور أجناس أدبيّة معينة، أو أفول واضمحلال نجم أجناس 
أخرى؟.
  قد تكون الإجابة عن هذا السؤال صعبة، وتحديد نوع الجنس الأدبيّ المتأثر بهذا الصعود والانتشار أصعب؛ لكن يمكن للمتابع للشأن الثقافي أن يلتقط عدداً من الإشارات التي تدله على الإجابة شبه المنطقيّة وتكشف له عن رؤى مختلفة ربّما عن السائد، فلو افترضنا أنّ الإجابة ستكون حول "الرواية العربيّة" من دون سائر الأجناس الأخرى، وكيف تأثرت بالتوجهات التي فرضتها الجماعات الإسلاميّة المتطرفة، فنستطيع القول بأنَّ ظهور مايسمى بـ"الرواية العرفانيّة" التي أصبحت هي النوع الجديد الصاعد هي ردّة فعل ثقافيّة على التطرف الذي خلّفته التنظيمات الإسلاميّة المتشدّدة من جماعة "الإخوان"و" القاعدة " و"داعش" و"بوكو حرام" وجماعات إسلامويّة أخرى غيرها أكثر أو أقل 
تطرفاً. 
وإنَّ هذا المشروع سيردم القطيعة التي كانت رائجة في لحظة ثقافية معينة، ويسعى جاهداً لإعادة الوصل مع ذاكرتنا وتاريخنا وموروثنا الثقافي والأدبي والفكري وتجديد آلية التفكير  بالحداثة، وفي نفس الوقت هي مهددِّة لأنواع سائدة مثل (الرواية التاريخيّة) و (الرواية الرومانسيّة) و(روايات الخيال العلميّ) و(الرواية السياسيّة) وربّما إلى حدٍ ما (الرواية 
البوليسيّة) .
وتتكئ (الرواية العرفانيّة) على مرجعيّات ثقافيّة متكونة من نصوص قرآنيّة واقتباسات أحاديث وحكم لأولياء صالحين، واستعادة سير شخصيّات إشكاليّة دارت حولهم عدد من الحكايات الخرافيّة والأسطوريّة، وأُدخلوا ضمن الموروث الشعبيّ، وأهمهم (الحلاج، وابن عربي، وشمس الدين التبريزيّ، وابن حزم الأندلسيّ، والجنيد البغداديّ، 
والغزاليّ) وغيرهم، وعلى الرغم من أن هناك نصوصاً روائيّة لعدد من الروائيين العرب تُحسب على هذا المشروع، مثل روايات جمال الغيطانيّ المعروفة بـ(التجليّات) بأجزائها الثلاثة، ورواية (سابع أيام الخلق) لعبد الخالق الركابيّ ورواية (جارات أبي موسى) لأحمد التوفيق، وأيضاً رواية (مجنون زينب) لجمعة اللامي، ورواية (غونتاموا) ليوسف زيدان، وغيرها من النصوص الأخرى، أقول بالرغم من وجود هذه النصوص الماتعة إلّا أنّ صاحب هذا المشروع الثقافيّ الأبرز يبقى هو الروائي المغربي (عبد الإله بن عرفة)، وهذا عائد إلى سببين: الأول، هو القصديّة في جميع أعماله الروائية، فهو ماضٍ ليؤسس لنوع جديد من النصوص السرديّة تختلف توظيفاً وصياغةً وتخطيطاً سردياً، وذلك من خلال استعادة عدد من الشخصيّات
 المتصوفة. والسبب الثاني، هو جَعْل هذا الروائي جميع أعماله وقفاً على عوالم الصوفيّة، من خلال استعارة معجمها وأسلوبها الرمزيّ فقد استطاع "ابن عرفة" من خلال ذلك إنتاج أكثر من عشرة نصوص متسلسلة ضمن هذا المشروع الإبداعيّ الجديد متوحدة الرؤى وتلتقي بخطوط واحدة، مثل رواية (جبل قاف) 2002. و(بحر نون) 2007. و(بلاد صاد) 2007. و(الحواميم) 2010.و(طواسين الغزاليّ) 2011.و(ابن الخطيب في روضة طه)2012. و(ياسين قلب الخلافة) 2013.و(طوق سر المحبّة سيرة العشق عند ابن حزم) 2014. و(الجُنيد... ألم المعرفة)2016.و(خُناثة ألرالرحمة) 
2018. وقد يكون سرُّ انتشار هذا النوع من الكتابة وإبداء الاهتمام به، على مستوى القراءات الناقدة ومستوى المقاربات، نابعاً مما 
يأتي:  الأول: وصول بعض هذه الروايات إلى منصات تتويج الجوائز العالميّة مما يؤكد أنّ هذا النوع ستكون له مكانة مستقبليّة كبيرة وواعدة، كما هو الحال في وصول رواية "موت صغير" للروائي السعودي محمد حسين علوان إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" لعام 2016 ، وتتحدث هذه الرواية عن حياة وليّ صوفيّ هو "محيي الدين بن عربي منذ ولادته في الأندلس في منتصف القرن السادس الهجري وحتى وفاته في 
دمشق. 
ثانياً: اتساع مساحة قراءة هذا النوع من الروايات، مما يؤشر الى أنَّ عملية التلقي والاتصال بالقارئ تسير على أحسن وتيرة، وأفضل تسويق وانتشار، فمثلاً قد طُبعت رواية "قواعد العشق الأربعون" لأليف شفق 6 طبعات ، بعد أن تمت ترجمتها إلى أكثر من لغة منها العربيّة، ووصلت نسخها المطبوعة إلى أكثر من خمسة ملايين نسخة فقط في 
تركيا.
ثالثاً: التوجه الأكاديميّ لدراسة نصوص هذه الروايات، ومحاولة بناء نظرية أدبيّة خاصة بهذا النمط الجديد من الكتابة الذي يكشف عن البنيّة الثقافيّة للمجتمع العربيّ، وأيضاً كشف جماليّات الكتابة 
صالعرفانيّة.
رابعاً: سريان بعض المقاطع المقتبسة من هذه الروايات كالأمثال، والتي تستعمل كنصوص للاستشهاد بها أحياناً، في مواقع التواصل الاجتماعيّ وفي محاور النقاشات، وعلى أغلفة الكتب ومتون بعضها التي كانت موضوعاتها في نفس السياق المعرفي، وبهذا هي تمارس دور الوظيفة الإشهاريّة لجهاز العتبات النصيّة.
ومن اللافت أنَّ رواج "النص العرفانيّ" جاء متزامناً مع قيام بعض الدول الإسلاميّة بمحاربة التطرف وتجفيف منابعه الفكريّة والثقافيّة والانفتاح على الاخر ثقافياً، بوصف هذه "السرديّات" هي بمثابة مذكرات احتجاج على تأصيل العنف ومحاولة لصقه بالإسلام الأصيل.