علي لفته سعيد
السلام شفاف، يشبه زجاجًا لمّاعًا يرى ما بداخله وخارجه من كلّ الاتجاهات، لذا فهو في المفهوم العام يعني التمسّك بالجمال والروح والرأفة والمحبة والعشق للأشياء والطمأنينة الأمان، والسلام لا يمكن له أنْ يسير في حقل أشواكٍ لأنه لا يحب رؤية شيء آخر غير الحب، فكيف يمكن له السير في حقل ألغامٍ مثلاً، ولأنه فعل ذكاءٍ فإنَّه لن يكون ردّة فعلٍ تقابل الغباء مثلاً، لكنه بكلّ تأكيد يتأثّر بالمحيط، بما يمكن أنْ يكون عليه الواقع وما تفعله ردّات الفعل الأخرى التي تريد من السلام أنْ يتراجع، ولهذا فإنَّ ثقافة السلام العربية مثلا تأثّرت بشكلٍ كبيرٍ بما فعلته السلطات في البلدان العربية خلال الحقب الزمنية المتعاقبة، لأنها ترسم حدود الفعل العام في انتاج اسلوب السلام وثقافته والترويج له بحسب عقيدة هذه السلطة او تلك او توجهها الايديولوجي لتكون واقعة تحت تأثير بما يمكن أن يفعله الانفعال في حيثياتها، فالسلام في عمومه يأخذ شكل الواقع وقوّته وسلطته وجبروته وهو المرآة العاكسة للواقع الذي يعيشه الفرد ضمن المجتمع، حتى صارت مقولة ان السلام هو صناعة السلطة حيث تشاء أن يكون.
لكنَّ هذا المفهوم قد يكون قد تراجع في الوقت الراهن. فالسلطة أو الواقع السلطوي لم يكن تأثيره أقوى على الفرد العربي في الوقت الراهن او ما بعد الربيع العربي، فهو واقع أنتج واقعًا آخر بسبب عوامل عديدة لا تبدأ بالطغيان السابق ولا تنتهي بأسباب استغلال الأحزاب وحوادث التاريخ لتكون هي المعامل الموضوعي للواقع الجديد، الواقع الذي طفحت فيه الطائفية على أساسٍ دينيٍّ وقوميٍّ ومذهبيٍّ، وصار ثقافة السلام ليست مرآةً للواقع، بل أداةً لزيادة الشحن الذي يؤدّي الى انكسار الرؤية ويشوّه الشفافية المرتبطة بالسلام
ذاته.
فما كان في القرن الماضي من تأثير السلطة على حركة المجتمع وانبثاق أحزاب كثيرة تدعو الى السلام والتخلّص من قبضة الطغيان. لكنْ في الاتجاه الآخر تمارس السلطة ذات الدور من خلال تسخير ثقافة السلام لفعل هذه السلطة وتجميلها لإدامة حضورها وقوّتها وقبضتها، وإقناع الآخرين من أن أيّ فعلٍ تقوم به هو الصحيح، للحفاظ على البلد من الغزوات، حتى صار الوضع الذي عاشته تلك الأجيال في زمن السلطات التي ارتبطت إن صحّت التسمية بالثورات والمتغيّرات والحسّ القومي والعروبي والصراع ما بين الرأسمالية والاشتراكية وما بين التنمية والتبعية وما بين التخويف من المجهول والاستعمار ونهب الثروات والقتل وكبت الحريات، حتى أضحى السلام أسير اتجاهٍ واحد، وهو أمرٌ طبيعيٌّ ما دامت ثقافة السلام في خصائصها (ينسجم أي إطار ثقافي مع إطاره المجتمعي الذي قام بخلقه وحدّد صفاته وخصائصه، والمظاهر الاجتماعية المُكتسَبة من قِبَل الأفراد الذين يبذلون كل طاقتهم للحفاظ على بقاء هذا النموذج واستمراريته وتطويره). فهي إذن مرآة عاكسة لكيفية المعيشة المجتمعية بشكلٍ عام، وإن كانت هناك استثناءات تعمل على تغيير هذا المواقع، الذي تراه دائما مؤذياً وغير واقعي، وهي ثقافة المعارضة المتواجدة في أيّ مجتمع، فالثقافة كما عرّفها عالم الاجتماع الحديث روبرت بيرستيد بقوله (إنّ الثقافة هي ذلك الكلّ المركّب الذي يتألف من كلّ ما نفكّر فيه، أو نقوم بعمله أو نمتلكه، كأعضاء في مجتمع).
لكنْ في الألفية الجديدة ربما تغيّر واقع السلام وثقافته، تغيّرت الوقائع الحياتية وخاصة بما ما أطلق عليه الربيع العربي، وسقوط تلك السلطات وتفجير برجي التجارة العالمية بما عرف بأحداث سبتمبر، لتأتي بعدها ثقافة جديدة، فكانت الألفية الجديدة امتحاناً جديداً للسلام العربي عموماً، كل شيء بدأ بالتغيير فما بعد جيلٍ قوميٍّ وعروبيٍّ وشعوبيٍّ ومناهضة الأمبريالية والاستعمار وملاحقة الوعي الثقافي، لمواجهة معترك هذه المسميات وتأثيرها على أجيالٍ كاملة، خرجت بالكثير من الأفعال الثقافية هنا كردّة فعلٍ مخالفةً لشروط الثقافة أنْ تكون هي الفعل، ما ساعد على طفح ثقافة الطائفية التي انزلق إليها الفرد، وضختّها القوّة ليقع فيها المجتمع حتى تحوّلت الى فعلٍ دامغٍ ودافعٍ ومؤذٍ لم يتصد لها الفعل الثقافي بتلك القوة المرجوة منه. لأنها دخلت في العقائد والمقدسات مثلما دخلت في الغيبيات التي لا يستطيع العقل التأثير في حيثياتها وراحت المؤسسات الدينية تغذيها من أجل إبقائها وإدامتها على انها محمول السلام الجديد لكنها في الحقيقة هي السلاح الذي يعطي القوة لهذه الطائفية التي ابتعدت أساساً عن الدين ومحتكماته.
إنَّ ثقافة السلام قد وقعت هي الأخرى في حبائل الطائفيَّة وهو ما يمكن أنْ يجعل أي مجتمع إنْ استسلم لها مفتّتاً وغير قابلٍ لإنتاج ثقافةٍ عامةٍ، بل ستتّجه الى تعضيد هذه الثقافة وبالتالي التمترس خلف أسيجتها التي يعتقد البعض أنه سيكون مدافعاً عن الجميع، في حين هو يسهمُ في خلق صورةٍ مشوهةٍ عن
السلام.
إنَّ الطائفية التي تتحرّك الآن ستتحوّل من مفهومٍ خاصّ يشبه هوية مجتمعٍ ما، الى أداةٍ قاتلةٍ ومدمّرةٍ للآخر غير المؤمن بها، ومن ثم قاتلة الى مرّوجيها ومعتنقيها، وسيعود السلاح الى المثقّف ذاته فيقتل نفسه فيها. ولهذا فإنَّ الأهم في المعادلة أنْ يبقى مفهوم السلام على أنه الفعل المضاد للطائفية وليس ردة الفعل، لأن الفعل إنْ سبق يكون من الصعب الحفاظ على قوة رد الفعل.