يا لها من غيمة!

ثقافة 2020/05/09
...

أمين قاسم الموسوي
 
 
أولاً: (غيمة عطر) مجموعة قصصية للأديب حميد الربيعي، وقد وضع تحت عنوانها تعريفاً بها بأنّها (متوالية قصصية) وهو مصطلح لما يزل غير شائع بين الادباء أنفسهم، ولعل الكاتب أراد أن يعرف بهذه المتولية فابتدأ بقوله: (يوم آخر، لا تستتر ولا تكتمل غيمة عطر في متاهة، متاهة ملا قنبر، إلا عند رواس وسواحل، ستظهر في صباح اليوم العاشر ويراها آخرون حيث يتجمعون) وقد صيغت هذه الأسطر بذكاء جامعةً عنوانات قصص المجموعة، فجاءت برقية أبرقها الكاتب للقارئ لتكون حجر الزاوية الرابط بين ركائز القصص الاثنتي عشرة، وقد جاءت آخر قصة (حيث يتجمعون) لتكون المفاتيح التي تفتح غوامض وطلاسم صويحباتها السابقات، ففي كل قصة – وان جاءت منفردة بعنوان يخصها – ثمة خيط يشدها بما قبلها، فكأنّها إضافة كإضافات المتوالية العددية في الرياضيات .
ثانياً: ثريا المجموعة (عنوانها) مستل من متن قصصها، فالغيمة فتاة (مريدوها من الشعراء يتغنون بأوصافها، من حَوَر عينيها تنقطع الرصافة عن الكرخ، ومن بياض وجهها تمتد أشرعة ذهبية الى البحار العميقة، في صوتها حيوية طافحة بالغنج... ) ص36، وهي: (ظلت تنشر شذى عطرها، مرة تتركه بصورة غيمة، ومرة تملأ به المكان)، بهذه اللغة الشعرية يرسم الربيعي صورةً مثالاً يتسامى على صورة ماض رائحته تزكم الأنوف، والكاتب يمسك بزمام مفرداتهِ وجمله بوعي حاد، فهو يتابع تأثير تلك الغيمة الفاعلِة هذا الجمالّ الفاتن، فيصوغ سرده جملاً تتسع بها الصور كدوائر الماء تبدأ صغيرة ثم تكبر دائرة فدائرة: (بثت نغمة عطر على هيئة فتاة، وفي زاوية أخرى على هيأة – هكذا- أسطر من كتاب قابل للتصفح، وفي الساحة العامة للحي شكلت من عطرها غيمة وصارت هي عمودها الوسطيّ) ص44 ، فالنفحة كبرت واتسعت حتى صارت اسطراً في كتاب، والأسطر توسعت حتى صارت خيمة.
ثالثاً: في المجموعة نَفَس ايروسي، لكنه ليس مهيمناً، لأن المهيمن – كما أرى – وهو ما سأشير إليه في ( رابعاً)، والنَفَس الأيروسي تجسدَ بـ(شمعة) و(رواس) وأخريات، وقد عبر عن جوع لمعاشرة الجنس الآخر بلقطات سما بها مخيال الكاتب: ( شمعة لا تدرك أن الرجل خرج من عالم الأخيلة، وأنه مصنوع من الورق، كانت تتمنى فعلاً أن يلاحقها الى المتنزه) ص28، فهي تحلم برجل لا تجده إلا في عالم متخيل في رواية أو قصة، وفي قصة (رواس) التي تتناول امرأة من مخيم سنجار تعبر عن معاناة بنات جنسها: ( تعاني الأمرين تحت النسوة من الريح إن قدمت) ص65 ، ، ولذلك فهي من الأدب النسوي Female literature ، حسب ما حدد ذلك أ.د. نجم عبد الله كاظم في ( مقدمات في المصطلح النقدي) ص71 ، فكاتبها رجل تناول بعضاً من أمور النساءِ في خيباتهن الجسدية : (صار الجسد وعاء للمارة يفرغون حمولتهم ويتركون شحناتهم ويرحلون بلا شفقة، نَصْحو كجثث النعاج التي أنهكتها الذئاب ليلاً) ص68، هذه المعاناة النسائية صورة للحيف الذي يمارس تجاه جسد المرأة التي تحلم بذكر مثالي (ليس مثلَه أحد) (لم يكن له كفواً أحد)، واذا ما نالته قالت: (أدركت أنا بنت الطارق أن المرتجى كان يصهل في جسدي ... فكان أحلى من الحلم وألم الانتظار، ناعماً أملس لزقاً مثل ثعبان شجرة تفاح) ص69.رابعاً: ما الثيمة المهيمنة على مجمل المتولية القصصية؟ : (سبهان يرى في حكاية الجثامين تجسيداً مطلقاً للمراحل التي مر بها أجداده) ص98، لعل الكاتب أراد بالجثامين رمزاً لكل الفكر الرجوعي السلفي الذي يقف حجر عثرة أمام دعوات التحرر التي تستجيب لروح العصر وقد أشار الاستاذ الناقد فاضل ثامر الى هذا المعنى في مقالته التي نشرت في ثقافية جريدة الصباح في شباط 2020م على ما اتذكر.
خامساً: يقول الاستاذ الناقد علي حسن الفواز: (مهارة القاص تكمن في السخرية من التاريخ، وفي التطاول على الحكاية عبر اختصارها أو عبر إحالتها الى مجال سيميائي أو رمزي، وعبر كسر ايقاعية الزمن فيها من خلال صياغة ما يمكن تسميته بزمن المجال ، وهو زمن لغوي افتراضي استعاري مخادع) جريدة بين نهرين العدد 109. لم يُرِد الفواز بهذا القول (غيمة عطر) بذاتها، بل أراد تحديد سمات القص المعاصر الأصيل، وقد جاءت (غيمة عطر) وكأنها المثال الذي يجسد ما قاله الفواز، ولا بدّ أن أشير هنا الى أن هذا المستوى من الابداع يتطلب متلقياً مسلحاً بثقافة عالية، صبوراً، متأنياً، محللاً، أي أنه من النخبة إذا لم يكن من نخبة النخبة، وهذه مسألة .