حين تستقيظ صباحا تجد عدة رسائل مخزونة في ذاكرة هاتفك من زين وآسيا أو هيئة الإعلام والإتصالات تحثك على البقاء في البيت، والسبب كورونا. "خليك بالبيت" هي اللازمة الأكثر تداولا منذ بدء تفشي الوباء من ووهان الصينية الى كل بقاع المعمورة. تعقب هذه العبارة جملة من النصائح الروتينية مثل ارتداء القفازات والكفوف، فضلا عن نصائح طبيّة وهي أكل كميات كافية من البرتقال والزنك ومجموعة الفيتامينات وفي المقدمة منها فيتامين سي الذي طفقت شهرته الآفاق. حين ترن على أحدهم يأتيك صوت قبل الرنة يحثك على البقاء في البيت حتى لو كنت متوجها الى فرن الصمون قبل الإفطار أو الى الصيدلية للتزود بما يكفي من مقويات طرأت على حياتنا. الدولة تفرض حظرا للتجوال مرة جزئي ومرة كلي ومرة "نص ونص" وأخيرا زوجي وفردي. كل ذلك بسبب كورونا والهدف منه "خليك بالبيت". تتمرد على البيت فتخرج لتكتشف إنك وحدك كنت محجورا في البيت. وقبل أن تواصل مسيرك الى السوق تتذكر أن خبرا عاجلا وصلك عبر تطبيق "السومرية" يقول إنّ نجدة بغداد تمكنت من اعتقال 34 شخصا خالفوا حظر التجوال. حين تدخل أقرب مول تجد أكثر من 40 شخصا في هذا المول فقط. كم مول في بغداد؟ عندك الحساب. لماذا هؤلاء المساكين الـ 34 من دون أكثر من مليوني شخص يتجولون في أحياء بغداد وأزقتها بين راجل وراكض وراكب ومهرول؟ ماعلينا، لا بد للنجدة فلسفتها التي دونها فلسفة غاستون باشلار مؤلف كتاب "جماليات المكان" الذي ألّف كتابه هذا قبل عصر الهواتف المحمولة الذكية منها والغبية (توفي باشلار عام 1962). وما جماليات المكان سوى محاولة لإعادة اكتشاف البيت من جديد من وجهة نظر فلسفية. لكن إذا كان باشلار حاول إعادة اكتشاف البيت من تلك الزاوية دون أن يجبره أحد حيث لاهاتف محمول يختزل له العالم، فإنّ وباء كورونا هو الذي أجبرنا على إعادة اكتشاف البيت الذي ما أن ندخله حتى نهرب منه الى ما بات يسمى العالم الافتراضي.معاناة باشلار فلسفية بحتة يعني "لامحزوز لا ملزوز" حين تفلسف برأسنا وجعلنا طوال العقد الثمانيني وماتلاه نتغزل بهذا الكتاب مثلما تغزلنا بـ "مئة عام من العزلة" للكولومبي غابريال ماركيز و "تقرير الى غريكو" للشاعر اليوناني نيكوس كازانتيس، و "وشخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان" لجمال حمدان، وترجمة طه باقر لملحمة كلكامش ومعها هيامنا بقصيدة "بانتظار البرابرة" لقسطنطين كافافي الذي شغفنا بها ردحا من الزمن مع مقولة النفري "كلما إتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، ومعها بيت تميم بن مقبل "ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر"، أو قصيدة عريان السيد خلف "أدك روحي نذر". رؤى باشلا بشأن البيت ومايحيط به من جماليات بدءا من بيت الطفولة ظهرت قبل "طركاعتي الهاتف المحمول وكورونا" إذن، لكن مع ذلك علينا الاحتراس من باشلار. كان مايهم باشلار هو التصدي لما عرف في زمنه وحتى قبل زمنه بـ "القطيعة الأبستمولوجية" معرفيا، فلسفيا، فكريا. اليوم حيث نعيش العصر الأفتراضي بكل أشكاله وصيغه فإنّ إجبارنا كورونيا على البقاء في البيت جعلنا نكتشف نحن أيضا لكن هذه المرة "محزوزين ملزوزين" أنّ البيت مجرد محطة سفر على سكة قطار كذاك الذاهب الى حمد سامعا فقط "دك كهوة" وشاما "ريحة هيل". صار البيت يبحث عن توصيف بعد أن بات عالما افتراضيا بدءا من حمد والهيل والكهوة.