علي سعدون
في التاريخ السياسي لبلدان العالم – كل العالم - ، لا غرابة في ان تظهر حركة شاذة او حزب يصنع أيديولوجيته على غير الطبيعة التي يعرفها الانسان في مشارق الارض ومغاربها، فيلفت الانتباه في اجراء هنا ومشكلة هناك، فضلا عن الوعود التي يطلقها للترويج ولكسب تعاطف من الجمهور.
هذا طبيعي وقد حفل التاريخ بنماذج كثيرة، منها على سبيل المثال حزب وحيد القرن في كندا مطلع الستينيات، وحزب المجانين في بريطانيا لمؤسسه دافيد ساتش وحزب الكلب ذو الذيلين في المجر.. الخ.. ومعظم هذه الاحزاب لا تشذ عن القاعدة التي تفيد بسعيها الى التصارع السياسي مع القوى الموازية او المنافسة لها بغية الاستحواذ والهيمنة على السلطة واثبات وجودها بطريقة أو بأخرى. اقول ان التاريخ حفل بالكثير منها على الرغم من غرابتها التي استدعت سخرية الكثيرين مثلما استدعت شعبية لافتة لبعض منها. قد يتبادر لذهن القارئ اننا نتحدث هنا عن احزاب او حركات تعمل على حقوق الحيوان أو حماية الطبيعة او ما شابه ذلك.. كلا ، نتحدث هنا عن احزاب سياسية حصل بعضٌ منها على مقعد او مقعدين في برلمان البلدان التي نشأت فيها !! ولا مجال هنا في هذا المقال المبتسر لذكر ايديولوجياتها واهدافها وتاريخها السياسي الذي انقرض بسبب تنامي الوعي ونضج الحركات السياسية والاجتماعية في بعض من تلك البلدان.. الامر وإن بدا غريباً فله ما يبرره. لكن من غير المبرر أن تنكسر ارادة وقوة بعض الحركات ويتقهقر فعلها السياسي او الاجتماعي او العسكري وتعاند في المنطق والحجة وتبقي على نفسها وكأن شيئا لم يكن..، يحدث ذلك عندما يشيع الوهم ويتدرّج صعوداً الى مصاف التخريف مثلما يحدث اليوم في تنظيم عصابات داعش الذي يطلق على نفسه جزافاً "تنظيم دولة الخلافة الاسلامية"..، من خلال اعادة نسخة التوحش ذاتها التي بلغت ذروتها في العام 2014 عندما استطاع بغفلة من العالم كله إحكام سيطرته على مناطق شاسعة في سوريا والعراق، وقد قدّم من البراهين الواضحة في الارهاب والرعب وتدمير الحياة واشاعة الفوضى والقتل والسبيّ ما يبعث في النفس حالة من التقزز والاستغراب وعدم الفهم لجوهر فكرة هذا التنظيم وايديولوجيته المقيتة. يشير عدد من علماء النفس، الى ان العلم وصل الى درجة العجز المطلق في تكوين ملامح واضحة لصورة الارهابي وفهمها بطريقة علمية دقيقة. نعم اعترف كثيرٌ منهم بذلك. بل واضاف كثيرون ايضاً الى ان مهمة هذا الفهم تقع على كتّاب علم الاجتماع وكتّاب الرواية الادبية للبحث في اغوار هذه الشخصية ومحاولة ايجاد مقاربة منطقية من خلال المخيال الذي يتمتع به هؤلاء بسبب من العقدة الهائلة التي تتشكل ازاء الشذوذ الانساني والفكري الذي يتفاعل في سلوكيات وافعال هذا النوع البشري الغريب. ما يعني ان عجز علماء النفس في فهم التصور الحقيقي لهذا الشذوذ، يرجع الى غرابة سلوكياته التي تتأرجح بين الجنون والوهم والعقل الخبيث والروح الغاشمة الكارهة للحياة.. صورة ضبابية وكالحة للأيديولوجيا المعتمة التي تجري بين ايديهم ولا يستطيع العلم بكل ما أوتيَّ من قوة ومن تجارب غنية ان يحل هذا اللغز الوحشي العجيب "داعش" سيء الصيت .. فهل باستطاعة كتّاب علم الاجتماع والرواية واصحاب الخيال ايجاد مثل هذه المقاربة؟. ربما سيحيل هذا المفصل العقل الغربي والعقل العربي الى اسئلة تبدأ ولا تنتهي بدواعي أهمية فهم صورة الحياة الجديدة التي خضّبتها الاصابع التدميرية بالغة القسوة والرعب في القرن الحادي والعشرين وهي تتلمس طريقها الذي بدأته من الكهوف المظلمة الى الحياة المتخمة بالوان البشرية متعددة الاطياف والتوجهات، ومتعددة العطاء والتنوع الثر، الكبير والواسع .. الامر ذاته سيتعلّق بخطورة التسمية : "تنظيم، عصابة، حركة، دولة خلافة.. الخ" وسنجد ان الاصطلاحات المذكورة، كانت قد اخذت حصتها في جدل تعريف هؤلاء على مدى نصف عقد من الزمن في الادبيات السياسية، ولم يستقر اصطلاحها الذي ظل رجراجا وسيظل كذلك حتى بعد زوال وجود هذه العصابات من العالم .. وفي الواقع، ان داعش فكرة ساذجة من افكار نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فكرة مستبدة في ارهاب واستبداد حركات التديّن الفارغ والموهوم الى حدٍ كبير في فهم طبيعة الحياة المعاصرة والتعايش معها. وهي من انتاج العقل المستلَب الذي لايمكنه ان ينتج شيئا ذا قيمة على الاطلاق.. وبقطع النظر عن مدى تمسك هذه العصابات بالايدلوجيا الدينية، فإنّها اختطت لنفسها مسافات اوسع من تلك التنظيرات الساذجة والبسيطة. مسافات ذات سقف عالٍ من التخريف والكذب سوّغت بموجبه فنتازيا الرعب والارهاب ..
وعلى أي حال، كثيرة هي التنظيمات التي يحدوها الوهم في المطاولة، اعني اتساع وهمها في تصديق وجودها وبقائها بقطع النظر عن نوع الكبوة او الانهيار او السقوط الذي تعانيه وتعيشه بالفعل لا بالفرض وحده.. ويمكننا في قراءة سريعة ان نتذكر تاريخ انهيارات متعددة ومختلفة، لكن الغريب في هذا الصدد هو الاصرار على تحقيق نوع من المكاسب على الرغم من سخام الوجه الذي تتمتع به داعش اليوم.. سخام اقل ما يقال عنه انه واحد من اكثر حركات العالم المخزية من وجهة النظر السياسية والاجتماعية والعسكرية..، يأتي ذلك من حيث رسوخه في منطقة الانحطاط والوهم والخرافة بطريقة قارّة وذات رائحة كريهة للغاية. فأية محاولات هذه لاستعادة الصورة المرعبة بعد ان تمدد السخام من أعلى الهامة حتى أخمص القدم..!!