التكثيف وجزالة القص في مجموعة {سنونو}

ثقافة 2020/05/12
...

جبار النجدي
 
يكتب القاص حنون مجيد القصة القصيرة جداً، لاسيما في مجموعته "سنونو "بواسطة بصمة خاصة، وتكاد أن تكون نادرة عبر ترويج لا يعلن نفسه بمباشرة صارخة، بل هو بوح عبر الوان الكلام الصامت الذي يستجيب للتوسل الشعري في السردي غير المتعجل  والمتأتي من المقاربة بين ضدين، يتكون أحدهما بالآخر بقدر ما يصارع ضده، على الرغم من بساطة القص لكنه يسعى الى شيء لا يدرك بيسر لكونه يمثل رغبة ممحوة تنبئ بمهارة سابقة لأوانها.
إذ إن المتغيرات في القص تتجاوز أهمية أي معنى بوصفها مقترحات غير مستقرة، ففي قصته الاولى في المجموعة والتي عنوانها (الصبر) فإنها تشتغل على فكرة - سوق الكلام على وجه يلزم منه وجه آخر - لذا كل كلمة في النص هي مغرضة بشكل ما، يصحبها  نوع من التحليق الذهني يسمح باستكناه  متضمنات القصة غير المكتوبة في القصة ذاتها ومن شأن ذلك توسيع خياراتنا بالتقصي، فيما وراء النص ودلالاته لاتاحة الفرصة لمشاركة القارئ بما يشبه شخصية القصة المأخوذة من شخصية البدوي  وبريقها وبساطة سلوكها الذي ينأى عن خداع النفس وتكبيت الضمير منوهة بالريح الشديدة التي تهب لمحو العلامات الرملية في اللحظة التي يذكرنا  مستهل النص بمكان صحراوي متخيل عبر استفسار لرجل يحيلنا الى مرآة الفعل البدوي قدرا ومصيرا، والتي حاول استكمالها في قصة أخرى عنوانها (لأنني) إذ يكون الجو في الصحراء عابقا بالروائح البرية وتذوق كل اشكال الحياة التي تمر عبر سلوك صامت لتتحول بعد حين الى حالة ناطقة، حيث الموجودات الساكنة التي تنأى بنفسها من المعنى الظاهر لتلجأ الى المعنى الخفي والاسترشاد بعلامات الأثر في هجرات البدو وأهوالها حين تتحول الصحراء الى قاع مظلم وسماء لألعاب الشهب تمتلئ بإشاراتها السحيقة والمحتجبة خلف ستار خرافي صامت تقابله جلبة المدن التي تخالف السكون الماثل في الخيم الوبرية، فثمة فراغ وصمت وارض قفراء وبدوي يتشمم الأثر  مولعا بلعبة  الخدعة المائية  التي يولدها السراب لتديم الصبر لدى البدوي اثناء مطارداته لها، فيشعر البدوي أنّ متعة الرحلة خير من بلوغ نهايتها فالقصة، تلمح وتحيل الى تداعي الافكار :سأل رجل رجلا متخذا طريقه الى الصحراء يستعطفه قليلا من الصبر  رد عليه، لو كنت املك شيئا من هذا بعد، لما وجدتني متخذا هذا 
الطريق.
لأنني املك في رأسي مخا القاني في الصحراء، اول مرة ارى الصحراء، اول مرة ارى رمالا تتحرك وأفاعي تطير أول مرة أسمع عواء ذئاب وزمجرة ضباع، اول مرة اشعر اني وحيد، والقادم أكثر رعبا!
إن قصص المجموعة تقع خارج أقرانها، فهي تعنى بأفضلية المتغير في الوجود وما يتمتع به الزمن من مهارة يذعن لها السلوك البشري وتتطلب متلقيا محتشدا بالفضول لمعاينة تلك الحركة المزدوجة في القص التي تمثل نقضا وأخرى تمثل تلاؤما.
فالقص يجري بين متناقضات لا تجتمع وتفترض متلقيا لماحا في فهم الرمز والايماءة اللذين يخرجان عن مقتضى الظاهر ليصيبا غرضهما  سعيا الى ترصين متانة   القص واخراجه بصورة أخرى غير صورته المعتادة، وهو ما يتأكد من خلال اللمح والاشارة والوصول الى عجز لغة القص وسطوته المتداولة في السياق اللغوي وتتبع الندرة في الكلمات والتلفظ باقلها 
وأقصرها.
فالراوي من صناع الكلام في الأخذ والرد الموجز وما يتصل به من واقعات، فقصة  "بائع الغاز" تعرض موضوعة الحرب عرضا آخر مختلفا وليس عاديا  طالما ارتبط بمخاوف اعمارنا في مواجهاتها مع الاقدار، فالقصة تمضي الى نهايتها خارج مأزق الحرب ويجري التعليق عن بعد
حولها :
على النقيض من امثاله ترك بائع الغاز الضرب على الحديد واحل محله موسيقى مونامور لا يكتفي بائع الغاز بذلك، بل يتمنى ان يحل أقطاب الصراع في بلده مشكلاتهم، بالموسيقى كذلك لا بقضبان 
الحديد.
بوسع القصة القصيرة جدا لدى حنون مجيد ان تحمل هموما ابعد وأكبر من قصرها لقوة ارتباطها بمسألة الوجود الانساني وابتكار الحكايات القائمة على اصعب الاشتراطات الجمالية متجاوزة حجمها وخارجة عن مداها ومسرفة في إيجازها، فالقص
لا يفيض بالكلمات بافراط وكأنه قبس من ضوء يرف في فنار بعيد.
 إن القص في المجموعة يعرب عن مطاولته في  رحلات قصيرة جداً، ولا يفرط في شيء سوى الزهد في الكلمات المختارة والمنتقاة، علاوة على التقاطات مكونة من موضوعات يسيرة يوليها القص عناية فائقة ويجعلها من مراتب الكلام  العليا الذي يميل الى الاخفاء بالاظهار والقلة على الاكثار واستكراه التكلف ودليل ذلك قصة "طقوس"
سألها إن كانت تعرف من هو، قالت: انت الدفء في الشتاء والبرد في الصيف، أضاف، وماذا تفعلين الآن؟
أضافت، وها أنا اتمتع بطقوسك.
وقريبا من موضوعة الحرب ايضا تنتهج قصة "عالم مغلق" نهجا اخر ليلعب الدور الاحالي لفكرة النص بالاشارة الى سلب الارادة والعقاب حيث تزدوج المشاعر بين كائنين متحاورين ويجري الحوار على لسان حيوانين من صنف واحد:
قالت القطة لأختها القطة: ما لصاحبنا يحمل عصاه علينا اليوم؟ ردت، لعله يلهو قالت أ يلهو بعصا؟ 
ردت، ربما برصاص غدا، دعتها: اذا لنرحل الى عالم ليس فيه عصي وليس فيه رصاص قالت: لن تجدي!
وأخيرا لابد من القول إن معنى او مغزى النص لا يدرك بسهولة في نصوص المجموعة ويظل في علاقة دائمة مع المشاعر الانسانية التي تنأى ولا تستقر.