صباح محسن كاظم
عُرف الإمام علي بن ابي طالب –عليه السلام – ببلاغته الهادرة بخطبه، ورسائله، وعهده العلوي لمالك الأشتر.. جمعت بنهج البلاغة الأثر الإنساني الخالد بسحره وبديع بيانه.. نهج الحياة.. نهج العلم.. نهج العدل.. شروحات للتوحيد الحقيقي.. النزاهة والإخلاص بالحكم.. خطب بالغيبيات وحوادث المستقبل.. لذلك يُعدُّ الكتاب الثاني بعد القرآن الكريم كتاب الله العزيز، الذي هو التبيان الواضح لكل شيء.. وفيه حقيقة الوجود والحياة، وقصص الأنبياء والعبادات والمعاملات.. كتاب شامل مانع كامل للحق.. في نهج البلاغة تتجلى نورانية ووحدانية وفصاحة وجمال البيان العلويّ السامق على شرفات التاريخ.. لقد ظهرت دراسات لسانية متعددة عبارة عن رسائل جامعية طبعت بالعتبة العلوية المقدسة تناولت الأبعاد العلمية واللغوية والجمالية بهذا السِفر الخالد.. وقد اذهلت بلاغة أمير المؤمنين جميع المفكرين والباحثين وطلاب العلم والشعراء ودارسي الأدب والبيان من جميع العقائد والأديان وبكل اللغات بالعالم، هذا ما لمسته بدراستي للماجستير بلبنان عن الإمام علي بالفكر المسيحي عند جورج جرداق – سليمان كتاني – بولص سلامة أرى الذين أبحروا بمجاذفهم بعباب هذا الموج الهادر بأفانين الكلام المنمق الدال على عمق الفلسفة والحكمة الذي جعل الأفئدة تشغف ولهاً وحباً لأمير المؤمنين عند المسيحيين وحتى عند اللادينيين والمستشرقين. لذلك أهم شراح النهج ابن ابي الحديد المعتزلي يقول: كلام علي دون كلام الله فوق كلام البشر.
في الكتاب الفائز بجائزة الكوفة لنهج البلاغة للعام 2013 للدكتور عبد الحسين العمري (الامتداد الزمكاني في نهج البلاغة مقاربات في الأسطورة والملحمة والوجود) الصادر عن دار نيبور – 2016 بـ171 صفحة تناول فيه:
التمهيد والفصول الثلاثة ركز بالفصل الأول: الامتداد المكاني الملتبس بالأسطورة وعلاقتها به، وموقف نهج البلاغة من ذلك وأين تقع الاسطورة منه. أما الفصل الثاني أوضح الامتداد الزمكاني الملحمي، فجاءت دراسة الملحمة وطبيعتها في نهج البلاغة وخارجه بما يمكن أنْ يفسح المجال باتجاه الربط بين المفهوم العلوي للملحمة والمفهوم.. واسترسل "المؤلف" بالتحليق بعوالم جماليات النهج – تعد تلك الدراسات- من الأهمية من خلال الرؤية المعاصرة لعلم وبلاغة علي بن ابي طالب –ع- حيث تناول: فكرة الامتداد الزمكاني الوجودي. حيث فكرة الزمكان فلسفياً ونقدياً وحتى فيزيائياً.
يؤكد الدكتور عبد الحسين العمري ص 13: "الزمان والمكان يمثلان عنصرين مهمين متلازمين بالضرورة، وتحديد معالم أية مسألة أو قضية معينة تتسم بالحداثة لا بدَّ من اللجوء – منطقياً- إلى هذين العنصرين اللذين هما الزمان والمكان؛ إذ يظل مفهومنا عن الزمان متعلقاً بمفهومنا عن المكان، فالزمان والمكان هما "العامل الأساس في تحديد سياق الآثار الأدبية من حيث اشتمالها على معنى انساني"، وهما من حيث التصور الانساني للحدس الحسي، الصورة التي ندرك فيها العلاقة بين الأشياء من حيث هي متقابلة أو متجاورة، أو هما الصورة التي ندرك بفضلها الأشياء من حيث هي متعاقبة أو متآنية في تسارع الزمان وتباطؤه، ومدى علاقة ذلك بالمكان).
في هذه السياحة المعرفيّة التي تغور بالحقل الجمالي بنهج البلاغة بتركيز علمي وفق نظريات النقد الحديث بالأدب جعل المتلقي يشعر بمقاربة النص العلويّ البليغ باستنطاقاته بالامتداد الزمكاني لما يحمل أمير المؤمنين من قوة الحجة بالاستدلال والاثبات من عمق الإيمان الروحي المُعزز بالمعرفة اليقينيَّة المتعالية بالتوحيد الخالص لله كما أكد في ص 30.. (واذا كان الزمان هو الشكل المتحرك للأزلية، فإنَّ اللغة هي الشكل المتحرك للفكر، وهي أول أشكال الترميز الموضوعي التي ابتكرها البشر...). ثم يستطرد "المؤلف" بعوالم الاسطورة في قضية الخلق والنشوء والنصوص الأدبية التي تبين معتقدات البابليين القدماء بالخلق الأول.. بينما ركز على فحوى النصوص القرآنية التي تناولت خلق البشر مع ما ورد في نهج البلاغة بشأن الخلق والتوحيد. يستنتج في ص 78 ما يلي (من خلال قراءة النصوص في خطب نهج البلاغة، في محاولة البحث عن كنه ملحمي يعطي للنص بعداً ملحمياً حقيقياً كما في النصوص المستقبلية، لحظنا أنَّ هناك تواضعاً ميقاتياً في الزمن الماضي الغاية منه بيان العظة الاعتبارية ليس إلا..).. بالطبع اللغة هي الوعاء الذي يحمل كل ما يمت لوجودنا الإنساني بجميع المجالات العلمية الروحية التربوية العقائدية الفكريَّة، لذلك يؤكد الدكتور عبد الحسين العمري في ص 166: (من ذلك يتبين أَّن اللغة والمعنى هما صيرورة العالم؛ لأنَّ اللغة المفهومة على أساس أنها دال مطلق لثراء المعنى وكماله، إنما يمثل النواة التي تدور حولها الأشياء في وجودها بناءً على اللحظة الوجودية الأولى).