علي لفتة سعيد
لا يمكن الاحاطة بكلّ شيءٍ فما اوتيت من المعرفة والتحليل تبقى ناقصة.. تلك مقولة الذي يسير بدروب البحث والحرف.. فكيف اذا كان من تريد الحديث عنه شخصية عظيمة مثل شخصية الامام علي (ع)
لم يكن عليّ بن ابي طالب اماماً فقط او انه يمثل راهناً عقائدياً او ماضياً اسلامياً او انه يمثل خصيصةً اجتماعيةً يمكن ان يتحوّل فيها المرء الى جهةٍ انتمائيةٍ، او انه كان شاهدًا على انبثاق رسالةٍ في لحظتها الولادية ومشجّعاً لها ومنتمياً اليها وفيها ومدافعاً عنها ومضحياً من اجلها ومقاتلًا في غاياتها.. بل لان فكره الانساني وتحولاته العقائدية وتطوّرات المشاهد الفكرية ورؤاه الحياتية التي ترتبط بالمستقبل انبثقت من روح الانتماء الحقيقي للاسلام ليتحوّل الى الهامٍ من جهةٍ والى مدرسةٍ فكريةٍ من جهةٍ اخرى حتى ان هذه المدرسة تفوق كل المدارس الفكرية الاخرى التي جاءت على اساس التفكير الوجودي البحت بما حول الانسان وامكانية الاجابة على السؤال الفلسفي عن الخالق والخلق في حين كان الامام علي(ع) وكأنه اطلع على كل المدارس الفلسفية واحاط بعمق سؤالها ليتوّج ذلك بقدرة الاجابة على السؤال الذي وحّد كلّ الاطراف المتناقضة التي حوله ولم تكن الاجابة محاولةً لفهم الذات الالهية، بل كانت قدرةً ومقدرةً على معرفة الصلة بين الله وعبده بطريقةٍ مثالية التحكّم في العقل والرؤية المنبثقة من وعي كامل باهمية الانسان الذي هو اساس الوجود في فكرة الفلسفة.
(الهي ما عبدتك خوفا من نارك، ولا طمعا في جنّتك، ولكنّي وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك.)
حتى انه ومن خلال المكان الذي وُلد فيه والزمان الذي تحرّك عليه والعقل الى انتمى اليه كان اقرب منه الى عدم الاطلاع على ثقافات العالم الاخرى بحكم ما للصحراء من مكنونات التعصّب والتذيّل والتجاهل لكل ما هو خارج الحدود التي تنطبق عليها مفهوم الرمال في الصحراء، حتى لكان الابعد في الجغرافية هي الوصول الى المدينة لكي تكون مفازةً اخرى من الوجود والبدء بدوران العقل الديني.. ولذلك فان العقل الذي تحرّكت فيه شخصية الامام علي سبق زمانه وتعدّى مكانه وفهم ما كانّ وحلّل ما يكون وبرهن على ان ما سيكون هو المهم.
الامام علي حين نقول فكرةً فانها فكرةٌ عظيمةٌ لا يمكن تقبّلها الّا لمن عرف اولا معنى الفكرة ومعنى ان الامام سبق عصره، ليس من جانب العاطفة التي نكتب فيها بل من جانب الحقيقة التي نحاول الوصول اليها في احترام الانسان. واعظم فكرةٍ تلك التي تضحّي من اجل الانسان.. وسواء نقل التاريخ لنا كلّ ما حصل من خلال ما كتبته السلطة بحسب الحكمة ان التاريخ يكتبه الزعماء او السلطة او القوّة فان فكرة الامام علي ظلّت خالدةً لا يمكن نكراها ولا يمكن الزيادة عليها ولا يمكن معاداتها، بل صارت حجر الزاوية لكلّ من فهم الدين الاسلامي لانه لم يأت على اساس انه قائدٌ اسلاميٌّ او محامٍ عن الدين او انه ابن عمّ الرسول (ص) او انه كان يبحث عن خلافةٍ ليكون زعيم امّةٍ تنطلق من الصحراء الى العالم الارحب بل كان يريد للانسان ان يعيش بكرامةٍ، ولذا فان البعض من المتعصّبين او الذين يبحثون عن السلطة كانوا السيف الذي اراد قتل الفكرة التي يحملها الامام علي. بمعنى ان الاعداء لم يكونوا ضدّ علي كفكرةٍ بل ضدّه كسلطةٍ وهو الذي تركها من اجل الّا يكون هناك تأثير في الفكرة الاسلامية التي تريد للانسان ان يعيش بكرامةٍ وحرية.
ان علياً العظيم وان كان باب مدينة علم الرسول الاعظم فان المخرجات التي يمكن قراءتها مما خرج من فكرته التي اقصد بها الانسان انه كان انسانا يعيش من اجل الوسطية التي تتحكّم بها علامتان..هما البساطة والايمان.. والبساطة تتحكّم فيها طريقتان هما الوضوح والمحبة.. فيما تتحكّم في الايمان طريقتان هما الرؤية والصدق. ويمكن الاستمرار بهذه المناقب بما يمكن ان يكون محاولة للوصول الى بعض ما توصّل اليه الامام في رؤيته الفكرية للحياة التي شاءت الصدف ان تكون هذه الافكار في منطقة صارت مشتعلة في التناقضات مما ولد ردّة فعلٍ تصارعية في اتجاهين متعاكسين معروفين في التوجه والتناقض.
الوسطية التي احاطت باقوال الامام كثيرة ولها ابعاد كبيرة ، ومنها ( قيمةُ كل امرءٍ ما يحسنه، الناس اعداء ما جهلوا، المرء مخبوءٌ تحت لسانه) وكذلك (التوحيد ان لا تتوهمه، والعدل ان لا تتهمه)، لذا كانت شجاعته ليست ضرباً بالسيف كتحقيق ذاتي دفاعي عن فكرة الالوهية او الرسالة المحمدية بقدر ما كانت دفاعًا عن فكرة اكبر استلهم منها كل الممكنات التي دفعت لان يكون فيلسوف امة.
ولو فهمنا تلك الوسطية التي اسسها علي في فكره وفكرته التي تحولت الى فلسفة تفكيرية قوله البديع (اما بعد، ايها الناس. فانا فقات عين الفتنة، ولم تكن ليجرا عليها احد غيري، بعد ان ماج غيهبها، واشتد كلَبها... ) فهو الذي لا يرضى بان يعيش الانسان وسط فتنة قاتلة. من هنا فان الامام علي ليس بصفته باحثا في الفكر الاسلامي او انه قائد اسلامي اسلم وامن بالله ودافع وضحّى لكي يحصل على الشهادة وهو المُبشَّر بالجنة، ولكن لكي تكون الفكرة فلسفةً قائمةً بذاتها، تحرّك الساكن من العقل وتطرح السؤال الكبير: من هو الاهم الانسان ام السلطة؟ ولانه اختار الانسان فتلك وحدها اشارةً الى ان الفكرة لم تزل تحارب لان الباحثين عن السلطة لا يقبلون ان تحركهم فكرة الانسان بقدر ما تحركهم نوازعهم لقتل الانسان للادامة في التواجد في السلطة. لذا فان ما يمكن استخلاصه من افكار الامام ومدلولاتها الفلسفية ان كل ما يخص الانسان هو الارقى وكل ما يمكن تحذير عواقبه من اجل ان يعيش الانسان بسلام وان التضحية اساسها الايمان باهمية الانسان لان من خلقه هو الله العظيم التي تتجلى في فهمها قوّة العبادة. ولهذا فان الفلسفة التي خرج بها علي لم تكن باتجاه امة واحدة بل هي امة الكون الكلية لان الانسان محورها. والّا هل يمكن ان يكون قوله العظيم الذي لا جدال في انه سابق لعصره ولمكانه (الناس صنفان: اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق). وهو ما دعا الامين العام الاسبق للامم المتّحدة كوفي عنان ان يطالب بان تنشدها البشرية وان تعلّق في بوابات كلّ المنظمات.