منذ البدء يتوجب التأكيد على أنَّ مسلسل (أحلام السنين) لمؤلفهِ شوقي كريم حسن، ومخرجهِ علي أبو سيف وعرضته قناة (أم.بي.سي -عراق) قد اختار بيئة درامية صعبة جداً ولها خصوصيتها الاجتماعية ذات الطابع العشائري المعروف، ألا وهي بيئة الأهوار وسكانها الاصلاء في محافظة الناصرية على وجه التحديد وفي حقبة تأريخية تعود الى خمسينيات القرن الماضي. ووسط هذه البيئة اختار موضوعة الثأر كأداة محركة للأفعال ومنجبة للشخصيات، إذ وضعنا المسلسل منذ اللقطة الاولى منه في دائرة نار الثأر المشتعلة في صدور أولاد القتيل: حسين الساجت يقودهم ابنه جاسم (ضياء الدين سامي) وأخوانه: موحان (ميثم صالح) وإطعيمه (علي شنيشل) قاصدين بنارهم ورصاصهم الشيخ: ساجت الفالح (محمود ابو العباس) والسركَال: إرزيج (فلاح إبراهيم). هذا هو المحور الأول لحبكة المسلسل الرئيسة قبل أن تتفرع منه الخطوط درامية تضم بين جناباتها عوائل درامية بشخصيات متعددة كان الغرض منها مؤزارة حبكة المسلسل بحكايته الرئيسة، ولسوف يهدر المسلسل الكثير من الحلقات والزمن المتراكم قبل أن نفكَّ شيفرة هذا التشابه والتقارب الذي لا داعي له في الأسماء بين (حسين الساجت) و(ساجت الفالح)! ويستطيع الابن العائد من بغداد: سلطان (اياد الطائي) وزوجته: نغم (ساره البحراني) بالعائلة، وبدوافع من مصالحهِ الشخصية التي تحرَّكها البورجوازية الناشئة في المدنية العراقية أنْ يجد حلاً لمعضلة الثأر بواسطة إقناع الشيخ (ساجت) بدفع الدية (الفصل العشائري) إلى عائلة حسين الساجت (دون أن يخوض المسلسل بأسباب ودوافع عملية القتل نفسها بالقدر الذي إحتلتهُ من أهمية ومكانة في حلقاته) لتنتهي الحبكة الرئيسة قبل الحلقة 15 وتُحلُّ العقدة المستعصية التي عمل المسلسل على تعقيد خطوطها المتشابكة، وقد بدا لي المسلسل وقد انتهى عند هذا الحد. ومن خلال جريمة القتل الرئيسة تتجسد ثيمة الظلم والطغيان والاستبداد التي يُجسّدُها الشيخ المتسلّط بأفعالهِ وسلوكهِ المُشين في إذلال وإهانة واستعباد أهالي قرية (الطار)، وقد أراد المؤلف لهذه الثيمة أن تحمل قيمة العمل الفني في جانب كبير منه. عَمَدَ المؤلف الى إيجاد وامتداد خطوط من الهور الى بغداد ومن الاخيرة الى الهور. إلّا أن وجود الحبكات الثانوية وكثرة الشخصيات وانشطار العوائل الدرامية داخل المسلسل لا تعني إطلاقاً أنّها ستشكل دعماً وتعزيزاً لحبكة المسلسل الرئيسة، بل على العكس تماماً قد تعمل هذه الكثرة المتكاثرة والتعدد على إضعاف المسلسل وتفكك وحدته العضوية الى أجزاء متباعدة أو متناثرة. لنأخذ مثلاً محور: إكريم (كرار أبو العباس) وعشقه لـ «ترفه» (ملاذ عبد السلام)، ما الذي أضافهُ هذا المحور وبمقاطع المواويل المتكررة التي حُشرتْ بين مشاهد المسلسل بطريقة مفتعلة والأبوذيات الطويلة التي يغنيها (العاشق الولهان) وأثقلتْ المسلسل بإيقاع ثقيل وحتى إخراجها ومعالجتها الفنية قد جاء ضعيفة (مثل وجودها الدرامي الطافي على سطح المسلسل تماماً) ولم تضف له شيئاً ذا بال، بل أصابتهُ في الصميم، ليس هذا فحسب بل مثلما انبثقتْ تلك العلاقة بين (إكريم) و(ترفه) في الفراغ وظلت معلقة في الهواء دون أنْ نتعاطف معها، ذلك لاننا لم نتعرّف عليها أساساً، فإنّ المؤلف يعاود هذا الترهّل والتثاقل مرةً اخرى من خلال انبثاق: حسنة (شيماء جعفر) زوجة الشيخ (ساجت) وتعلقها بالعاشق الولهان (إكريم) بعد موت (ترفه) بذات الانبثاق من الفراغ والتعليق في الهواء. وحتى شخصية محورية مثل: المُلا حسوني (مهدي الحسيني) قد جاءت مرتبكة على صعيد البناء الدرامي لها، ولم تتبين لنا ملامح وأبعاد شخصيته على وجه التشخيص، فقد بدا لنا في الحلقات الأولى على أنهُ رجل متزن يحمل وقار رجل الدين البسيط، إلّا أنه سرعان ما انخرط في علاقات فكاهية ساخرة مع لصوص الدجاج: هويشم (رضا طارش) و: عويد (علاوي حسين) في حين بدا في بعض المشاهد يمارس أعمال الشعوذة، وبهذا بدا لنا (المُلا حسوني) شخصية نمطية لطالما عملت الكثير من الأعمال الفنية لدينا على تقديمها وتكريسها وإشاعة ثقافتها. إلاّ أنّ أبرز الخطوط الرئيسة التي سيصيبها الوهن وعدم الإقناع هو العلاقة التي تربط بين :فرج (علي دعيم) و: نظيرة خاتون (آسيا كمال) فلَمْ يؤسسْ لها المسلسل على نحو مقنع، ومؤثر فمنذ المشهد الأول للقائهما، وبتعبير واضح وصريح ظهر على وجه نظيرة وكأنها وجدتْ ما كانت تبحث عنه بعد طول انتظار.ترى ما الذي وجدتْ تلك (الخاتون) الأرملة الجميلة بذلك الشاب الأصغر منها عمراً، بائع الخضار، المنحدر من إصول ريفية، الجاهل والأُمي الذي لا يعرف من المدينة والمدنية شيئاً؟ درامياً ومن أجل تكوين وتمتين هذه العلاقة العاطفية كان لا بُدَّ من الإتيان بأسباب أكثر إقناعاً وتأثيراً، والبحث عن أفعال وأحداث تنشئ وتؤسس لمثل هذا الإنجذاب العاطفي من قبل (الخاتون) نحو ذلك الشاب القروي الخجول. وسيبدو المأزق الدرامي أكثر صعوبةً عندما يتعلق الموضوع بزواج هذه الأرملة الجميلة من ذلك الشاب
الفقير. ورغم جودة الحوار الذي كتبهُ شوقي كريم حسن وملاءمته من حيث الصياغات والتشبيهات والصور والتعبير المنبثق من بيئة الأهوار وحُسن صياغته درامياً واستخدام (الحسجة) الجنوبية البليغة، إلّا أنَّ الطبيعة الإذاعية قد طغتْ على السرد الدرامي، كما ان المؤلف قد اعتمد كثيراً بالدرجة الاساس في كتابة السيناريو على تقنية (المنولوج) (الحوار الداخلي) وتَمَّتْ معالجتها إخراجياً بالطريقة المسرحية القديمة، وأحسبُ أن مكالمة الممثل لنفسه بصوت مسموع قد أصبحتْ من مخلفات الماضي وقد غادرتها الدراما الحديثة من غير رجعة، وبسبب هذه التقنية الدرامية والمعالجة الفنية لها أخذ الإيقاع العام للمسلسل بالتثاقل والبطء خاصةً عندما يتزامن ذلك مع سرد وإيراد المشاهد الفائضة عن الحاجة التي باتتْ تأخذ من الزمن الدرامي الشيء الكثير، ومع توالي هذه المشاهد وتراكمها ومصاحبة المقاطع الغنائية لها بدأ المسلسل يفقد الإحساس بالزمن داخل السرد الفني. يبقى موضوع اللهجة الجنوبية وطريقة إجادتها من قبل الممثلين موضوع شائك ومعقد، ففي ظل عدم اعتماد الدراما العراقية على ما يعرف بـ (خبير اللهجة) تبقى الاجتهادات الشخصية للممثلين وطريقة التعامل مع تلك اللهجة وقدرتهم على تطويع إمكانياتهم الفنية ماثلةً أمامنا.