جماليات البيت

ثقافة 2020/05/16
...

حميد المختار
 
في كتابه الجميل (شعرية العمر) للمبدع الراحل محمود عبد الوهاب الذي يتناول فيه تجاربه وقراءاته وتأملاته وسفرياته، ومن ضمن تلك الفصول يتحدث عن كتاب (جماليات المكان) للفيلسوف (غاستون باشلار) مما دفعني ان أعود إلى الكتاب واتصفحه من جديد بعد فراق سنين طويلة، وما يهمني هنا هو تناول (باشلار) لموضوعة البيت الذي صار محط ركابنا ومأوانا الدائم في أزمة الوباء الذي حاصر العالم واقفل على الشعوب أبواب البيوت، يقول (باشلار): إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لايمكن ان يبقى مكانا لامباليا، وهو يتناول في كتابه الاستجابة إلى جماليات البيت، الحجرات السرية، الادراج والصناديق والقبو، يقول (ريلكه): البيت قطعة المرج، ياضوء المساء /فجأة تكتسب وجها يكاد يكون إنسانا /انت قريب منا للغاية، تعانقنا ونعانقك،،،، صار البيت اكتشافا جديدا حين نحجر فيه ولن يكون هناك مكان آخر غيره هو ربما العودة إلى الرحم الأول والارتباط بالمشيمة والأمان وكيس العزلة والتفرّد وبعيدا عن ضياع العالم خارج البيت، صار المكان خارج البيت فضلا عن كونه موبوءا فإنه خطير بدروبه الزلقة ومداراته المرعبة وليله البهيم، ثمة شوارع مقفرة وموحشة وانت تتأمل ذلك من خلال نافذة الدور الثاني من بيتك، حين تنتهي من تلك المشاهدات تسدل الستارة على الكائنات خارج سياج البيت وتعود إلى دفئك ورحمك الولود، لذلك يشكل البيت مجموعة من الصور التي تعطي الإنسانية حقائق معاشة وبلا اوهام، والبيت كما هو عند (باشلار) هو ركننا في العالم، إنه كما قيل مرارا كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما في الكلمة من معنى، ونظرا لأن ذكرياتنا عن البيوت التي سكناها نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة، فإن هذه البيوت تعيش معنا طيلة حياتنا، ان البيت هو واحد من أهم العوامل التي تدمج افكار وذكريات واحلام الإنسانية، ومبدأ هذا الدمج واساسه هما أحلام اليقظة، أنا مازلت اتذكر البيت الذي ولدت فيه في منطقة الشاكرية /كرادة مريم، بيت ذو باحة ترابية واسعة تحيطها غرف ملتصقة ببعضها البعض، ثم هناك البيت الذي قضيت فيه فتوتي في مدينة الثورة قطاع ٣٣ في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، بيت مستطيل بمساحة طولية ينتهي بحدود الحمام والمراحيض المقابل للتنور الطيني ومطبخ العائلة المكسو بدخان زيتي اسود غطى السقف والجدران القريبة من الموقد هناك أصعد السلّم الحجري إلى السطح واتصل بالفضاء الخارجي نافشا ريشي امام لغز العالم، وانا اتأمل اجنحتي البراقة تحت وهج الشمس الساخنة، ثم بيت مدينة الحرية وابوابه الخمسة التي افتحها واحدا واحدا حتى أخرج الى العالم الخارجي وصولا إلى أول بيت لي أصبح فيه مستقلا عن بيت العائلة الكبير، بيت بمساحة ضيقة محاط بهياكل متروكة في منطقة الحسينية تلك المدينة المفتوحة على سماء واطئة وقبور طازجة تمنح المدينة هدوءا شبحيا مريبا، هذا الوباء أعاد للعالم احلام يقظته وفتح أمامه كيس رحمه الدافئ ليعود من جديد يستكشف أماكنه القديمة متصالحا مع ذاته ودفء البيت وأمنه، حين ذاك نستطيع فتح الباب الخارجي ونطل على العالم مرة أخرى بكل ثقة وشجاعة.