عبدالزهرة زكي
هذه قصيدة نُشرت فلم تقف الرقابة عندها، لكنها غُنّيت فجاءت بالكثير من المشاكل للشاعر الذي كتبها وللمغنية التي غنتها. لم يكن يدور في خلد الشاعر أن تُغنّى هذه القصيدة فتحظى بقيمة مضافة لقيمتها الشعرية والإنسانية، من الواضح أن القصيدة، بمجازاتها، مكتوبة لهدف شعري وليس للغناء. لقد كان الشاعر مدركاً لحساسية موضوع القصيدة وهذا ما جعل زاوية النظر لموضوع القصيدة يعتمد تقنيات تعبير شعري أكثر مما يستلزم لنص غنائي.
ولحساسية الموضوع في حينه فقد عمد الشاعر إلى نشرها باسم مستعار في نشرة للمعلمين في نيويورك. تواضع شهرة الشاعر، وكان في مطلع شبابه، وهامشية المطبوع الذي ظهرت فيه القصيدة هما مما سهل مرورها الهادئ على الرقابة.
لكن تحوّل القصيدة إلى أغنية كان شأناً آخر كرس اهتماماً استثنائياً بالقصيدة من حيث الشهرة والرواج وبعد ذلك الأثر السياسي الذي جرى بموجبه شيوع الأغنية وما تفجر إثر ذلك من تداعيات.
حصل هذا في ثلاثينيات القرن الماضي، كتبت القصيدة عام 1937، فيما غُنيت عام 1939 في الولايات المتحدة الأميركية، بمدينة
نيويورك.
الشاعر هابيل ميروبول، أميركي ولد في نيويورك عام 1903 من أبوين روسيين، والمغنية هي بيلي هوليداي، أميركية سوداء ولدت عام 1915، واشتهرت كواحدة من أفضل مغنيات ومغني الجاز الأميركي.
العمل الأبرز لهوليداي هو غناؤها هذه القصيدة. والقصيدة الأبرز لميروبول هو أيضاً هذه القصيدة، ميروبول كان معلم لغة انكليزية، بدأ شاعراً تمتع باهتمامات متعددة قبل أن يتكرس كمؤلف غنائي
وملحن .
لقد استذكرت بي بي سي مؤخراً هذه القصيدة الأغنية عبر مقال كتبته عايدة أمواكو ورصدت فيه حجم الصدود (الرسمي) الذي قوبلت به الأغنية حيث “أدرجتها محطات الراديو في الولايات المتحدة وخارجها على القائمة السوداء ورفضت شركة كولومبيا للتسجيلات تسجيلها.
ولما قامت المغنية هوليداي بجولة لتقديم الأغنية، فإن بعض أصحابها حاول ثنيها عن الغناء خوفاً من تنفير أو إغضاب
رعاتهم”.
كانت القصيدة تدين عملية الاعدام العشوائي التي كان يتعرض لها السود، ترصد (الفاكهة الغريبة) جثة معلقة على شجرة، فتقدم مشهداً مأساوياً برؤية شعرية بالغة التكثيف وعميقة بتعبيرها عن مشاعر النفور الإنساني من بشاعة القتل، وكان المشهد كما قدمته القصيدة محفزاً لحركة سعت لمناهضة قتل السود ورفض فكرة الإعدام
من الأساس.
القصيدة نشرت بعنوان (الفاكهة المرة) باسم مستعار هو (لويس الان)، وهما اسما طفلي الشاعر اللذين ولدا ميتين. لكن في الأغنية تحوّل العنوان إلى (الفاكهة الغريبة) واستعاد الشاعر صلته المباشرة بالقصيدة حيث تعرض لسلسلة من التحقيقات السياسية التي انطلقت من احتمال أن يكون الحزب الشيوعي وراء التمويل والتحريض على كتابة القصيدة وتسجيل الأغنية. لكن ميروبول يقول إنه ظل منزعجًا للغاية من استمرار العنصرية في أميركا، إثر مشاهدته لصورة بشعة لإعدام أميركي أسود، ويؤكد الشاعر أن “الصورة ظلت تطارده لعدة ايام” حتى كتب القصيدة.
هذه الأغنية سمّتها مجلة تايم بـ “أغنية القرن” وذلك في عام 1999 حين كانت المجلة بصدد تقويم أبرز الإنجازات في الغناء، وكان آرثر ميلر يقول: “لقد كانت الفاكهة الغريبة شجاعة استثنائية سواء من ميروبول أو
من هوليداي”.
حين غنت هوليداي القصيدة للمرة الأولى كان منظمو الحفل قد اختاروا أن تكون الأغنية في ختام الحفل، حيث أُطفئت الأضواء باستثناء ضوء شاحب كان يركز على وجه المغنية، ومُنعت خدمة تقديم المشروبات، كما مُنع التصفيق أثناء أداء الأغنية.. كان صوت هوليداي في هذا التسجيل الذي عدت إليه عبر يوتيوب يبدو كما لو أنه منتزع من ظلام سحيق جاثم في أعماق المغنية، وصف الناقد نات هينتوف مرةً أداء هوليداي بالقول: “نسيج ذو حواف فولاذية إنما ناعم
من الداخل”. كان الصمت مطبقاً في القاعة حتى خُيّل للمغنية، أثناء ما كانت تغني، احتمال أن تكون قد ارتكبت خطأ ما، كما تقول هي، بحيث لم يصفق لها الجمهور وحيث الصمت عميق، لكنها واصلت الأداء بتدفق متقطع وحزين وبصوت كان يقطّر الكلمات في ظلام القاعة كما يتقطر الدم من الجثة المعلقة على الشجرة، حين انتهت المغنية من أدائها وقف رجل واحد وصفق بحرارة فانفجرت القاعة بعاصفة من التصفيق. لقد نجحت الأغنية وكانت بعد ذلك منطلقاً أساسياً من منطلقات حركة الحقوق المدنية
في أميركا.
بعد سنوات أو عقود، في 2002، أعيد الاعتبار، رسمياً، للقصيدة والأغنية التي وضعتها مكتبة الكونغرس الأميركي في السجل الوطني.
الفاكهة الغريبة
هابيل ميروبول
تحمل الأشجار الجنوبيّةٌ ثمرةً غريبة؛
الدمُ على الأوراق والدمُ عند الجذور،
أجساد سودٌ تترنّح في النسيم الجنوبي،
ثمرةٌ غريبة تتدلى من أشجار الحور.
مشهد رعوي للجنوب الباسل؛
العيون الجاحظة والفم المتهدّل،
رائحة ماغنوليا لذيذة وطازجة،
ثمّ رائحة اللحم المحترق المفاجئة.
هنا ثمرة للغربان، لتنقرها
للأمطار لتتجمع، للريح لتمتصها
للشمس، كي تعفنَها، للأشجار لتُسقطها
ها هنا غِلّةٌ غريبة ولاذعة.