سؤال التعددية والتوق الواعي للديمقراطية

آراء 2020/05/17
...

أ.د عامر حسن فياض
 
في أسهل معانيها تُعرّف التعددية بدلالة نقيضها المتمثل بالواحدية سواء كانت واحدية مثالية أم واحدية مادية. وهذا ماتشير اليه المعاجم الفلسفية.
ان التعددية (pluralism) هي من اللاتينية وتعني متعددا أو متكثرا (pluralis).  وهي نظرة في الفلسفة المثالية يؤكد انصارها انه في صلب الواقع تقوم جملة من الجواهر الروحية المستقلة احدها عن الآخر. وكمثال على ذلك يرى الفيلسوف الالماني (ليبنتز) ان العالم عبارة عن جملة من الوحدات الروحية المنغلقة على نفسها. 

وهذه النظرة مميزة ايضاً للبراغماتية والحدسية والشخصانية والعقلانية النقدية واتجاهات مثالية أخرى. ولتعليل ترابط الجواهر الروحية المستقلة يضطر انصار التعددية المثالية للاستعانة بإرادة الله الذي "نسق" بينها.
وفي السنوات الاخيرة اشتد الاهتمام بالمذهب التعددي في الفلسفة والسوسيولوجيا الغربية. وهنا يسبغ على التعددية مدلول اوسع مما كان عليه في فلسفات القرنين الثامن والتاسع عشر. فلم تعد هذه التعددية محصورة بفكرة التعددية الانطولوجية (التصور التعددي عن الوجود) او بالتعددية الفلسفية التاريخية (نظرية العوامل المتعددة لا بالعامل الواحد اي القائلة بمختلف العوامل الاقتصادية والجغرافية والسياسية والروحية). بعد ذلك راحت التعددية تنسحب على المنطق ونظرية المعرفة وفي ميدان علم الاخلاق والحقوق وعلى الحياة الاجتماعية والسياسية كالتأكيد على ضرورة تعدد الاحزاب وعلى مشروعية الاختلاف في الاراء والمصالح لسائر الفئات والاتجاهات الاجتماعية والسياسية. قد اصبح من الواضح ان للتعددية المعاصرة لون من ألوان الدفاع عن النظام الديمقراطي الموجهة أفعاله ضد النزعات والاتجاهات الواحدية الشمولية الكليانية المطلقة. ولن يتسع المقام هنا، بطبيعة الحال، لاستعراض جميع ما تفتق عنه الفكر الانساني من تبريرات ومسوغات لمناصرة الواحدية ولطمس أو الالغاء القسري للتمايزات الاجتماعية والسياسية لمصلحة جماعة جهوية مهيمنة بدءاً من نظم ديمقراطية القلة الاحرار في الدويلات اليونانية القديمة ودكتاتوريات الشيوخ والفرسان الرومانية القديمة أو حكم النبلاء الاقطاعيين في أوروبا العصور الوسطى، أو نظريات روح الشعب وسيادة الامة والدولة في الفكر النازي والفاشي او غير ذلك من الافكار والممارسات التي تحاول باسم افضلية العام على الخاص والجماعة على الفرد، تحاول تبرير الحكم الواحدي الكلياني الشمولي المطلق مستندة الى ضرورة النكران لوجود حقيقة التمايزات الاجتماعية والسياسية داخل كل مجتمع سياسي حديث ومن ثمّ انكار حق المكونات المتنوعة والمتمايزة في التعبير الحر والفعل السياسي المستقل.
وعلى اي حال، واياً كان حجم الارث الاستبدادي الواحدي وهو يحاول طمس التمايزات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع، فقد أسفر الجهد الانساني في مناهضة الاستبداد ومن أجل الحرية والعدالة والأداء السياسي الرشيد، عن ضرورة الاعتراف بالتعددية السياسية داخل المجتمعات السياسية المعاصرة، كما اسفر عن تأكيد ضرورة أن يؤمن النظام القانوني الدستوري للفئات الاجتماعية والسياسية كل الحق في التنظيم المستقل والحق في التعبير عن الرأى، وضرورة التسليم بالطموحات المشروعة لمختلف الفئات الاجتماعية في سعيها السلمي للوصول الى السلطة السياسية والمشاركة فيها تحت مظلة تنظيم تشريعي يسمح بذلك ويقننه.
ونستطيع أن نستقرئ هذا الاجماع الانساني المعترف بالتعددية السياسية بواسطة النظم السياسية الرسمية في النصوص المتعددة الموجودة في عديد من الوثائق الدولية ذات الطابع العالمي وفي جميع الدساتير الوطنية في عالمنا المعاصر.
بعد ذلك لعله من المقبول أن نتبنى تحديدا لمفهوم التعددية لنقول انها تعني تعدد الجماعات الاجتماعية التي تتبنى مفاهيم متميزة عن بعضها للواقع والمستقبل السياسي للوطن داخل المجتمع الشامل. وبهذا المعنى فإنّ التعددية الاجتماعية ظاهرة ملازمة في وجودها واستمرارها للمجتمع البشري منذ عرف هذا المجتمع ظواهر التبادل السلعي والملكية الخاصة والدولة، بل وقبل ذلك وبعده فإن التمايزات الثقافية والعرقية والدينية بما تفرضه من تمايزات في الرؤى والمواقف السياسية هي تمايزات ملازمة لطبيعة المجتمع البشري ذاته.
وفي سياق واقعنا يتجدد مفهوم التعددية السياسية بوصفها حق وحقيقة الجماعات الاجتماعية والسياسية في الاعلان عن نفسها والتعبير عن مطالبها ومصالحها، وأكثر من ذلك حقها في المشاركة السياسية الرسمية بأن تكون لها منابرها وقنواتها وتنظيماتها المستقلة التي تمكنها من الاعلان عن رؤاها ومواقفها السياسية بل تمكنها من تحقيق هذه الرؤى والمواقف في مجال العمل السياسي.
وعلى هذا الاساس فإنّ تلمس صيرورة وبواكير الدعوة للتعددية السياسية في العراق الحديث سيكون ميسوراً عبر متابعة بدايات الدعوة الى مناهضة الاستبداد بوصف الاخير بمثل الحالة المجسدة للشمولية والكليانية الواحدية في الحياة السياسية، كذلك نتلمس هذه التعددية السياسية من خلال تسجيل المطالبات العراقية الصريحة بالتعددية الحزبية وتعددية الرأى بوصفهما الاعمدة الاساسية في التعددية السياسية.
والواقع ان مقومات صيرورة فكرة التعددية السياسية في العراق الحديث هي مقومات وضعية أكثر منها موضوعية، الامر الذي وضع أمام استيطان هذه الفكرة ووجودها وانتشارها في هذه البلاد شرطين لاثالث لهما : الاول، هو شرط الوعي الذي لايمكن الفكاك منه الا على ايدي المثقفين العراقيين، والثاني، هو شرط سياسي يتمثل بوجود نظام الحكم ومؤسساته المصاغة وفق المبادئ الدستورية البرلمانية. بمعنى ادق ان مقومات التعددية السياسية في العراق الحديث اعتمدت شروطاً فكرية وأخرى سياسية. فالشروط الاولى، اي الفكرية، كان قد وفرها المثقفون العراقيون الذين نزعوا نحو شق دروب العقلانية والعلمانية والطبيعية المستندة الى مبدأ الحرية. أما الشروط السياسية فإنّها تمثلت بوجود الدستور والمؤسسات الدستورية المعمولة وفق الصيغ التمثيلية البرلمانية التي عرفها العراق فضلا عن وجود الاحزاب والقبول بالتعددية الحزبية من جهة ووجود الصحافة المتعددة والقبول بتعددية الرأي من جهة ثانية. فواقع هذه المؤسسات ان لم يكن يشير تماماً الى حقيقة وجود التعددية السياسية فإنه يشير، على الاقل، الى مقومات اعتمدتها الدعوة لفكرة التعددية السياسية على اساس امكانية اعتبارها بمثابة مرتكزات مؤسسية وفرت الفضاءات السياسية المناسبة للمطالبة أو للدعوة الى فكرة التعددية السياسية في العراق الحديث.
وباختصار شديد ينبغي ان نفهم ان من لم يقبل بحقيقة التعدد والتنوع سيعيش في خدمة وهم الواحدية الشمولية والتوق الواعي أو غير الواعي للاستبداد.