مجالس المحافظات .. هل نجحت تجربة الحكم اللامركزي؟

آراء 2020/05/19
...

شمخي جبر
 

اللامركزية
اعتمدت الدول منذ العصور الاولى لنشوئها نظام الادارة المركزية الذي استطاعت من خلاله بسط نفوذها على جميع مرافق الدولة ومؤسساتها على امتداد اقليمها ، واستطاعت تسيير أمور مواطنيها من خلال هذا النظام الاداري اقتصاديا وسياسيا ، اذ كانت القرارات والتعليمات والاوامر الادارية في جميع جوانب الحياة من المركز اي الحكومة المركزية في العاصمة نحو الاطراف، في ظل هذا النظام كان القرار محتكرا ومختصرا على العاصمة ممتدا نحو اطراف الدولة، ويمكن ان نقول ان النظام الاداري المركزي هو امتداد لاذرع الدولة ووصولها الى ابعد نقطة في المدن التابعة لها (الإنفراد المطلق في صياغة القرارات السياسية والإدارية وتدبير الشؤون العامة للبلاد انطلاقا من مركز العاصمة )، وقد تعطي الحكومة المركزية بعض صلاحياتها الى المحافظات او الولايات.
ان نظام الادارة المركزية هو الذي كان سائدا قبل انتشار القيم الديمقراطية التي طرحت بدائل اخرى في النظام الاداري ، فكان النظام اللامركزي. وهكذا قيل ان النظام المركزي يصلح للانظمة السياسية الاستبدادية.
ظهور النظام اللامركزي ادى الى ظهور مبدأ التفويض ؛ الذي يقصد به تفويض الإدارة المركزية السلطات المناسبة إلى الإدارات البعيدة عنها جغرافياً للقيام بمهام عهدت بها إليهم. ويصف احد الباحثين عملية التفويض بأنها عملية نقل السلطة ، تشريعية كانت أو اقتصادية أو تنفيذية من المستويات الحكومية المركزية إلى مستويات الدنيا .
ويسعى النظام اللامركزي الى توزيع الوظائف الادارية للدولة ومؤسساتها واشراك اصحاب المصلحة( المواطنين) في صنع القرار او تنفيذه وكذلك التخفيف عن كاهل المركز وهذا لا يعني ان تفقد الدولة ترابطها او سيطرتها على اطرافها.ولكن ينظر البعض الى النظام اللامركزي على انه يضعف من سيطرة المركز وهيبته ويزيد من غلواء الاطراف في الشعور بالاستقلال او محاولة الانفلات من رقابة المركز.
 
أحد مظاهر الدكتاتورية
ترتبط المركزية الادارية  بالدكتاتورية اذ انها تضع القرار والصلاحيات في يد واحد او أيد محدودة وتحرم الاخرين من الشراكة في صناعة القرار.وهو ماطبق في العراق منذ تاسيس الدولة العراقية العام 1921 .
وتعني اللامركزية( تفويض جزء من السلطة والصلاحية الى مستويات ادارية ادنى بهدف تفعيل دور التشاركية الادارية،والمساهمة في اتخاذ القرارات)
ومن ميزات النظام اللامركزي  انه يستطيع ان يرصد حاجات الناس ومشكلاتهم  ومن ثم تلبية الحاجات وحل المشكلات ومواجهة الظواهر  لانه سيكون قريبا مما يحدث،يعني انه قريب من الواقع المجتمعي والشعبي والجماهيري.،وبهذا فهو اكثر مرونة من الحكم المركزي، لانه  يوفر نوعا من الشفافية للجمهور الذي يرى ما يحدث أمامه (في المحافظة او القضاء او الناحية) فيتيح للمجتمع الرقابة  والمحاسبة  والمساءلة.
 بينما  يتعامل الحكم المركزي مع كل ما يجري بتجاهل واستعلاء كلما كان ذلك بعيدا عن العاصمة ومركز الحكم،لانه يفكر على الأغلب بتوطيد أركان حكمه من الهزات الشعبية فكلما كان ذلك بعيدا كان اكثر اطمئنانا.فتبقى الاطراف خارج حساباته او تأخذ منه هامشا بسيطا من القلق والتفكير والاهتمام وهوماكان يحدث ايام النظام السابق. 
ويرى بعض الباحثين بهذا الشأن ان الحكم اللامركزي يشجع على الأفكار المستحدثة والمنافسة والابتكار  والتقدم،كما انه يحد من التهميش و الإقصاء اللذين تعاني منهما بعض الجماعات القومية والدينية والطائفية،إذ يوفر لها هذا النوع من الحكم المشاركة السياسية والثقافية والاقتصادية ، وبهذا يكون المجتمع اكثر استقرارا وتماسكا من خلال توفر السلم المجتمعي..
المشكلة التي تواجه النظام اللامركزي هي مدى وجود جهاز إداري كفء في جوانب عدة منها تعظيم الموارد ووضع الخطط وتحصيل الرسوم والضرائب بعيدا عن الفساد او هدر المال العام وتبديده.
البعض - للاسف- يفهم اللامركزية على انها انعزال وانقطاع عن المركز وهو مااوصل الحكومات المحلية في المحافظات الى التردي والخمول والفشل وتفشي الفساد في ظل ضعف او غياب  متابعة ومراقبة المركز ومحاسبته .
وكمثال على كل هذا الحكومات المحلية في المحافظات العراقية وبخاصة الجنوبية بحكم التكوين القبلي العشائري لمجتمعاتها،فضلا عن وجود قوى سياسية واحزاب تمتلك اذرعا  مسلحة متمردة على القانون متمرسة ومتطبعة على انتهاك القانون والاستيلاء على موارد الدولة وممتلكاتها كالمنافذ الحدودية  والموانئ في البصرة والتي تشكل  لو كانت الظروف افضل والدولة قوية موارد مهمة للحكومة المحلية في المحافظة ولكن نفوذ العشائر والاحزاب والمليشيات يحرم المحافظة من تلك الموارد كلها أو بعضها.
ومن هنا نرى اهمية وجود قانون واجهزة تنفيذية قوية تبسط نفوذها داخل المحافظة وهذا اهم مرتكزات الحكم اللامركزي  ومن ثم الحكم الرشيد.
 
ضعف المركز وعدم تدخله
تحدثنا قبل قليل عن ابتعاد المركز او ضعفه وعدم تدخله وما ينتج عن هذا من ظواهر ادارية واجتماعية،ومادام نموذجنا هو مجالس المحافظات وبخاصة في الجنوب ، فقد كان لهذا الغياب اثاره الكبيرة كتوقف بعض المشاريع او انتشار الفساد الاداري والمالي،فضلا عن ظواهر اخرى  كالفقر والبطالة المتفشية بين الشباب وانتشار المخدرات وتخلف الخدمات وترديها وانتشار الامراض وتردي الواقع الصحي والتربوي  في ظل حكومات محلية ضعيفة غاب عنها التخطيط ووضع البرامج  فضلا عن الفساد الذي ينخر المؤسسات. 
 
إلاطار القانوني والدستوري
اكد الدستور العراقي في المادة (116) على الحكم المحلي او اللامركزي وقسمه الى فيدراليات او مجالس محافظات:(يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمةٍ وأقاليم ومحافظاتٍ لا مركزيةٍ وإدارات محلية).كما اشارت المادة (122) الفقرة ثانيا من الدستور الى مسألة تقاسم الصلاحيات بين المركز والاقليم.(ثانياً:- تمنح المحافظات التي لم تنتظم في إقليم الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة، بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، وينظم ذلك بقانون.)بالرغم من الاطر الدستورية والقانونية لمجالس المحافظات الا ان الجمهور بقي ينظر اليها على انها حلقة زائدة في الحكم،تشكل جزءا من الترهل الاداري الذي يكلف الدولة الكثير من مواردها.
لهذا طالبت بعض القوى السياسية والشعبية بحل مجالس المحافظات والغاء وجودها وتعديل الدستور ليتوافق مع هذا كله وهذا شبه مستحيل (تعديل الدستور ) وان أشارت له المادة  142 من الدستور.
ولكن رغم هذا كله تبقى لمجالس المحافظات اهميتها بوصفها الاداة المنفذة لقاعدة الحكم اللامركزي ،وما يتمخض عنها من سلطات تشريعية وتنفيذية في المحافظات تشرف على تنفيذ برامج التنمية وتبويب الموارد والتخصيصات المالية التي يخصصها المركز  للمحافظات،وبخاصة بعد نقل صلاحيات ثماني وزارات الى الحكومة المحلية في محافظة
كلها.
في الختام نستطيع ان نقول ان المشكلة ليست في المبدأ (اللامركزية) بل في وسائل التنفيذ التي يمكن تجاوزها من خلال تطبيق آليات الحكم الرشيد ومغادرة حالات الفساد وتبديد الاموال.
وعلى الرغم من ان مجلس النواب صوت في تشرين الاول العام 2019 على حل مجالس المحافظات الا ان الامر بقي معلقا وغير محسوم بانتظار التعديل الدستوري ليتم إلغاؤها والعودة للحكم والادارة المركزية اذ ان المادة الدستورية (١٢٢) اعطتها صلاحياتها ونظمت عملها.