فوضى المنهج!

الصفحة الاخيرة 2020/05/21
...

 جواد علي كسّار
 
الفوضى والمنهج مفهومان متناقضان ومقولتان بدلالتين متباعدتين، فالمنهج علامة الترتيب والنظام والنسق الموحدّ، الذي ينتظم العلوم والرؤى والمواقف التي تصدر من متبنّيات بعينها، بينما الفوضى علامة على العشوائيَّة والاعتباط وغياب الترتيب وتنافر الرؤى وتصادم المواقف. بكلام مختصر، المنهج نظام المعرفة والطريق الواضح إلى تحصيلها والتعبير عنه في الوقت نفسه، وفق متبنّيات فكريَّة محدّدة، وبذلك هو أشمل من مجرّد كونه أدوات لضبط البحث، إذ هو يدخل في طريقة التفكير بالصميم.المعنى اللغوي للمنهج يلتقي في غير تعقيد أو تشابك، مع المعنى الاصطلاحي المتبادر للكلمة، قبل أنْ تنزع مقولة المنهج إلى حال الفوضى التي تمرح بها الآن في بعض تيارات الفكر المعاصر في العالم العربي والإسلامي، المتلوّن بكثافة الاستعارات وفوضويّتها عن المنهجيات الغربية، ولا سيّما منهجيات المدرسة الفرنسيَّة.
المنهج في اللغة، الطريق الواضح، واستُخدم بمعناه ذاته في قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ (المائدة: 48). في الحضارة الإسلامية مارس علماء المسلمين المقولة المنهجيَّة في مختلف ضروب المعرفة. وعندما تبلور مصطلح المنهج في معناه واستخداماته الحديثة مع بداية عصر النهضة الأوروبي لم يبتعد عن دلالته اللغويَّة، بل بقي المعنى الاصطلاحي متّصلاً، بل منتزعاً من المعنى اللغوي. لقد بلغ الإيغال في النزعة المنهجيَّة والمبالغة بها وتضخيمها، حداً دفع ناقداً في الساحة العربية من وزن الراحل هشام شرابي، وصف أبرز أصحاب المشاريع الفكرية المعاصرة أنهم باحثون عن المنهج، أكثر من أنْ يكونوا أصحاب نظريَّة.
ومن ثمّ بدلاً من أنْ يقود المنهج بوصفه الطريق الواضح، أو بوصفه نظام الفكر، أو بوصفه على أقلّ تقدير مجموعة قواعد إجرائية تنطلق من متبنّيات فكرية معيّنة؛ إلى إثراء الإنتاج المعرفي وتطوير قابليات المجتمع وتنظيم مواقف الناس ورؤاهم الفكرية، تحوّلنا إلى حال الأزمة في الإنتاج المعرفي من خلال حال الفوضى في المنهج.الأطروحات الجديدة والمشاريع التي طغت في العالم العربي خلال العقود الأخيرة، هي نزعات واضحة في فوضى المنهج، حتى أصبح من اللازم على المثقّفين في ساحتنا أنْ يختزلوا ثقافتهم إلى مفردة واحدة، هي: وعي فوضى المنهج!إذا أردت مثلاً أنْ تطلّ على أعمال فكرية لمثقّفين من قبيل عبد الله العروي ومحمد آركون ومحمد عابد الجابري وغيرهم كثير، فينبغي لك في البدء أن تحيط أولاً بشتراوس والتوسير وفوكو ودريدا وغيرهم.في ضوء هذا الواقع تستطيع أية عملية نقدية لاستقراء الاتجاهات المعاصرة في الفكر العربي، أن تنتهي إلى قناعة مفادها، أنّ أغلب أصحاب هذه الاتجاهات، ما هم إلا موظفون إجرائيون في منهجيات أغلبها غريب عن أرضنا فائضة عن حاجاتنا. 
حين تأخذ بنظر الاعتبار ملاحظة أحد النقّاد، من أنّ ساحتنا الثقافية أضحت بفضل هؤلاء أكثر معرفة وإحاطة بهيدجر وشتراوس وفوكوياما ودريدا من الساحة الثقافية الغربية ذاتها، فإن ذلك يعيدنا لملاحظة نابهة هي أشبه بالعظة صدرت من مثقّف فرنسي هو فرانسوا شاتليه، يقول فيها: «الطريف في الموضوع وجود عددٍ من المثقّفين في البلدان ذات الثقافة الفرنسيَّة، يسعون إلى تبني مفاهيم كنّا نحن نتسابق للتخلص منها...، ويعانون من عجزهم عن صياغة مفاهيم نسعى نحن إلى التخلّص منها».المسافة بين المنهج وفوضى المنهج، هي عينها التي تصل بين من يريد أنْ يضعنا خلف العربة نعيش التقليد دائماً، وبين من يريدنا أنْ نكون في المقدّمة نعيش الإبداع والابتكار.