علي سعدون
البعد السياسي يمتد عميقاً الى مفاصل الحياة بأجمعها، دون أن يستثني منها شيئا. هكذا تكون السياسة مصدر قوة مؤثرة في سيطرتها على تفاصيل الحياة اليومية وهي واحدة من بديهيات الوضع القائم بين الحاكم والمحكوم.. ثم ان المفهوم السياسي في اي بلد في العالم يبنى في الاساس على مجموعة من المتطلبات الاجتماعية والتاريخية والمثيولوجية للشعوب.
ويندر ان تنبثق سياسة في بلد ما بخلاف معتقداته ومزاجه العام الا بالصورة الديكتاتورية التي تقلب الحياة رأساً على عقب.. الحديث هنا يختص بالعموميات لا بالجزئيات، فمن السياسة يستمد البلد نوع القوة والرفاهية والاستقرار ومن خلالها ايضا يرزح تحت وطأة الجوع والفقر والاستلاب.، وما بين هذا وذاك ستنطلق اشكاليات الفهم العميق لمفهوم السلطة ومفهوم تدخلها السافر او الطبيعي في الحياة العادية للشعوب.
البعد السياسي مصدر تأثير بالغ الوضوح في الادب والفن والدراما وفنون التعبير المختلفة والمتعددة. وثمة نماذج افرزها التاريخ السياسي للأمم والشعوب منذ عصر النهضة ، تؤكد بما لا يقبل اللبس ما نذهب اليه في هذه الرؤية المبتسرة.. ففي الدراما التلفزيونية التي نحن بصددها الان، قد يدري او لا يدري المؤلف حين يضع نصا دراميا ينحاز فيه الى الاقطاع بوصفه حالة من حالات ادارة القبيلة والقطاع الزراعي وشؤون الناس في فترة تمتد من مطلع القرن العشرين الى لحظة قيام التغيير الجمهوري في العراق، بصورته الانقلابية العسكرية او صورته الثورية التي يؤمن بها سواد كثير في الادبيات السياسية، وهو انحياز للنظام الملكي الدستوري الذي أسس للدولة العراقية منذ قيامها، وبالتالي يصبح النص الدرامي الذي يراد له ان يكون محايدا في نقل الاحداث، شأنه في ذلك شأن النص الروائي الذي يصنع سارداً ينوب عنه في ترتيب وتأثيث الحكاية.
اقول يصبح النص الدرامي هنا متبنيا لموقف ذلك المشهد السياسي الذي ينقسم حياله المجتمع بين مؤيد ورافض، والمؤلف سيكون طرفا فاعلا في ذلك التبني..، والعكس نفسه يصح في هذه الرؤية، إذ ان الانهمام بالترويج للصورة المفزعة التي يظهر عليها الاقطاع في معظم الانتاج الدرامي العراقي على سبيل المثال، سيدفع بالمؤلف الى تبني الموقف السياسي المناهض لا لنظام الاقطاع وحده، انما سيشمل ذلك التبني انحيازه الى الحقبة الجمهورية بوصفها الراعي الاول للانقضاض على ذلك النظام وازالته من الوجود، بوصفه نظاما سيئا
وبائدا.
يمكننا فهم موضوعة التجرد والحياد في الدراسات الثقافية منذ انبثاقها استنادا لأهمية الحاجة الى فهم عميق لما حدث ويحدث في الحياة والتاريخ، ولأنها ستختص بالنخبة التي تهتم كثيرا بقراءة الروايات والسرديات والتاريخ والميثولوجيا وحفريات القاع المهمل في
الحياة.
لكننا سنكون امام معضلة حقيقية في فهم ذلك الجدل الذي يحوم حول مدى قدرة مؤلف الدراما على الالتزام بالحياد في مضمون سرديته التلفزيونية التي تخاطب عقول السواد الاعظم من الناس، بعد ان يتخيل ذاته وذوات الاخرين اثناء
الكتابة.
وهي معضلة تتعلق بالتاريخ وابطاله وامتداداتهم الموجودة في المجتمع على المستويين الاجتماعي والسياسي!.. فقد درجت العادة في ان تدافع الحركات السياسية عن تاريخها بقطع النظر عن ما ارتكبته من جرائم واخطاء واساليب قمع وتنكيل الخ. تريد هذه الحركات السياسية ان يصار الى رؤية الوجه المشرق في حركاتهم (الثورية)، غير مقتنعة بالنقد او المكاشفة التي يحتاجها المتلقي للوقوف على حيثيات ذلك التاريخ من وجهة نظر شخصية، قابلة للدحض مثلما تكون قابلة للدعم والتعضيد.. ، وسيشمل ذلك ايضا النزعة القبلية ومروجيها الذين تحركهم دوافع ومحرضات تقترب من قوة الايديولوجيا التي تحرك المنضوين تحت لوائها. القبيلة اليوم لها صورة ايديولوجية مضمرة لا تظهر الا عند المنعطفات التاريخية التي تفسر انفعالها وسكونها وحركة وجودها الذي بات يتشكل خارج الاطر المعروفة للنظام
القبائلي.
ربما نجد في عدم تحديد هوية الامكنة او الشخوص، بل وفي اسماء الحركات السياسية وفقا للمخيلة في معالجة الواقع التاريخي الذي ينتمي اليه هؤلاء، احد الحلول الناجعة – المضمون غير محدد باسم او مكان ويشير الى حقبة زمنية مفتوحة -، لكنها في الاخير ستضعف من قوة تجسيد السردية على ارض الواقع. هذه الحيرة التي تتمخض عن المشكلة تحتاج الى نوع من الموازنة العقلانية بين الاشارة والتلميح والتصريح، مادام الوعي الدرامي الذي يشيع في المجتمع لايزال متأخرا ويذهب الى مبدأ القياس بالمقارنة والتصدي والدفاع عن الحقيقة التاريخية وفقا للمزاج العام.. انها مسافة قلق واسعة يركن اليها مؤلف الدراما عندما يصبح البعد السياسي والبعد الاجتماعي على المحك في مناقشة اشكاليات عميقة تحفر في اشد المناطق خلافا وجدلا وارهاصات متعددة ومختلفة.
وعلى اية حال، فان التأثير السياسي سيظل ملازما ومتحكما بمزاج الكاتب مالم يكن متحررا من السلطة القامعة السائدة في البلدان الابوية التي تستمد قوة حضورها وسيطرتها من الاعراف والتقاليد والضوابط الاجتماعية
والدينية.
وبتقديري الشخصي البسيط لن تتطور الدراما العراقية مالم يتحرر الكاتب من السلطة القامعة سواء كانت اجتماعية او دينية او سياسية. اضافة الى توفر نوع من حرية التفكير والطرح ، اذ ينبغي ان يكون المؤلف بمثابة الباحث في التاريخ بطريقة عقلانية لتحقيق نوع من العدالة في قراءة المضمرات التي تنتج عن الغلبة وهي تتيح قراءة ذلك التاريخ وفقا لنظرية - التاريخ يكتبه الاقوياء او
المنتصرون- .. ينبغي ان يكون الانتصار في تحقيق دراما حقيقية مثيرة ومدهشة من خلال الانتصار للقيم الحقيقية التي انتجت ذلك التاريخ او ذلك الواقع الاجتماعي الملتبس. وبالتالي يكون دور الدراما اكثر تنويرية مما يجري اليوم في تحقيق نوع من الالتباس في القراءة الاجتماعية والتاريخية بطريقة مرتبكة لا تنم الا عن رضوخ لقيم السلطات ومزاج
المشاهد..
هذه الفكرة لابد لها ان تستثني بعض الاعمال الدرامية العراقية لما انتجته من دراما فاعلة كانت بمثابة المكاشفة التاريخية السياسية والاجتماعية مع الماضي، وربما كانت بحق محاكمة بمعنى ما لأحداث دراماتيكية ساخنة، عادة ما ينقسم حيالها المجتمع بالرفض والقبول والاستهجان .