زيجمونت باومان او المعيش البشري في الزمن السائل واللايقين
ثقافة
2020/05/29
+A
-A
يوسف محسن
واختفت وعود الحداثة الكبرى بتحرير الانسان من هذه اللحظة القيامية (الأوبئة الفيروسية والكوارث البيئية وذوبان الكتل الجليدية مع انتشار الأسلحة الكيمياوية والتجارب النووية، و الحروب والإرهاب والمجاعات والفقر والأزمات الثقافية والسياسية والتمييز العنصري، والهويات القاتلة) اشتهر العجوز باومان في نقد الحداثة الغربية ومن كتاباته المهمة ( سلسلة السوائل) و(الحداثة والهولوكوست) و (الحداثة السائلة) و (الحداثة والإبهام) تتميز أعماله بعمقها وبساطتها ووضوحها وتقوم على قاعدة (كل شيء يمكن أن يحدث، ولكن لا شيء يمكن أن نفعله في ثقة واطمئنان فتتولد حالة من اللا يقين تجمع ما بين الإحساس بالجهل (استحالة معرفة ما سيحدث) والعجز (استحالة منع ما سيحدث) والإحساس بالخوف دون أن نستطيع إدراكه ولا تحديده) وكما تقول د. هبة رءوف عزت في تقديمها للكتاب: التفكير في الحداثة وبيان تحولاتها ليس توثيقا ولا تأريخا ولا تدقيقا فحسب، بل قيمته تنبع من عمليته ونفعه في أن يشرح لنا ما يجري فعلا، والنصوص من هذا النوع هي نصوص إبداعية لأنها كاشفة ومهمة.
كتاب زيجمونت باومان
الكتاب في خمسة فصول مختزلة ومدهشة، يحلل باومان المعيش البشري في الزمن السائل، زمن اللايقين، المتسم بعدم الأمان وضياع الحواجز بسبب القوى المتداخلة للعولمة. نص (الأزمنة السائلة العيش في زمن اللايقين ) يملك من القدرة التفسيرية ما يجعله مناسباً لفهم تحولات كثيرة يمر بها عالمنا المعاصر الذي لم تعد تقسيماته الجغرافية دالة بمثل ما باتت التقسيمات الثقافية والاقتصادية على محكات الغنى والفقر والقوة والضعف هي الأكثر مركزية اهتم عالم السوسيولوجيا باومان بالعلاقة الشائكة بين الحداثة والعقلانية والبيروقراطية والإقصاء الاجتماعي، وفي أواخر التسعينات ركز اهتمامه على العلاقة بين الحداثة والاستهلاك وتحول العالم في القرن العشرين لمجتمع استهلاكي بحت، ويصف الحداثة بشكلها المعاصر المعاش حالياً بالحداثة التدميرية بشكل أو بآخر، إذ لا مكان للأبطال في هذا المشهد السريع والذي لن يصل لمرحلة مواكبة الأعمال الأخلاقية الحقيقية التي يؤمن بها، ويتطرق في الكتاب إلى فكرة التقسيم الثقافي وهو التقسيم الأكثر خطورة يمكن له أن ينتج سلوكيات غير حداثية وغير صحية، بحكم أنها ستولد لنا مجتمعات منغلقة على نفسها لا تقبل الآخر، وهذا لا يقل خطورة عن التقسيمات الاقتصادية الكبرى والتي تحد بدورها من مفهوم التنمية الاقتصادي. كتاب العيش في زمن اللايقين قراءة لحالة العصر الذي نعيش فيه زمن شهد إذابة مستمرة وتفككا متواصلا للمراكز الصلبة،المراكز التي تؤكد مركزية الإنسان في هذا الكون وقدرته على بسط العقل وعلى الطبيعة الجامحة وتسخيرها لخدمة البشرية . حين يقول (ما أحوجنا هذه الأيام إلى هذه الأنماط والقواعد والمبادئ التي يمكن للمرء أن يمتثل إليها، ويتخذها معالم على الطريق لعله يهتدي، فهل يمكن أن نعود إلى الحالة الصلبة في يوم ما؟)
دخول فخ الحداثة
ولدت التحولات التي جرت إبان دخول الحداثة إلى تغيير أنماط الحياة عامة واتساع التاثيرات العولمية لتجعل من تلك المجتمعات مجتمعات (تعجز عجزا غير مسبوق عن تقرير مساره بشيء من اليقين، وعن حماية المسار المختار بمجرد اختياره). تأثيرات الحداثة ادت الى انفتاح المجتمع على حركة التاريخ كما يقول ماركس، ولكن اخذت تتضخم مخاوفها من الأثار غير المتوقعة للعولمة العشوائية بسبب (انتقائية للتجارة ورأس المال، والمراقبة والمعلومات، والعنف والاسلحة، والجريمة والأرهاب، في إجماع تام على احتقار مبدأ سيادة الأرض وعدم احترام أي حدود للدولة ) ونتيجة لهذا تفككت الروابط الاجتماعية والاقتصادية بين افراد المجتمع وانفصال السلطة الحاكمة عن السيطرة الفعلية على مقاليد السياسة التي تحددها توازنات خارج حدود الدولة. يقول زيجمونت باومان (إن سياسة فقدان الاستقرار التي يديرها القائمون على أسواق العمل، تؤيدها سياسات الحياة وتعزز آثارها فسياستا العمل المؤقت والحياة كلتاهما تلتقيان في النتيجة نفسها اضمحلال الروابط الإنسانية والعلاقات الإنسانية، وذبولها وتداعيها، وتفسخها، فالعهود الماضية بأن (لا يفرقنا إلا الموت) صارت (عقودا بصيغة ادامة الإشباع) وهي عقود مؤقتة وعابرة بطبيعتها وبتصميمها وبتأثيرها البراغماتي، ومن ثم فهي عرضة للفسخ من جانب واحد، عندما يكتشف أحد طرفي العقد فرصة وقيمة في الخروج من العلاقة تفوق محاولات إنقاذها بأي ثمن ومن غير حساب .
الخوف اللامتناهي
لا توجد وحوش مرعبة جديدة كما يقول باومان، بل يوجد استمرار لداء الخوف. ففي المجال الصحي والغذائي تم توظيف مكونات الخوف لتسويق العديد من المنتوجات ليكشف لنا عن حالة تفكك النظم والمبادئ والقيم، وتخلخل الروابط التي كانت تجمع المواد الصلبة (الأخلاق والمرجعيات والقيم). بين المجتمعات البشرية هنا (الخوف بكل تجلياته، كالخوف من المعاناة، من الضعف البشري، من فقدان الوظيفة، من العلاقات وانهيارها السريع) ويكشف (ان الخوف صناعة ما اكثر الاموال التي يدرها الشعور بالخوف وعدم الامان و ما ان يحل الخوف بالعالم الإنساني فأنه يكتسب قوته الذاتية الدافعة فالخوف من الخطر ليس الطامة الكبرى بل امتداده وتحولاته المتصاعدة ) وهي انتاج العنف والحرب والحذر المستمر منهما يمنح الدولة اللفياثيان الطاغية والمجتمع المبررات في تدمير الحقوق السياسية والمدنية ( فهي تبدي في نهاية المطاف استعدادا للقبول بحرية أقل من أجل مزيد من الأمان). ويبين (كان تحرير السوق وسيرورة النزعة الفردية، للراسمالية الحديثة ولدت المخاوف الأولى لكن الحداثة الصلبة انذاك استطاعت التغلب على تلك المخاوف باحلال التضامنات البشرية بين المالك والمجتمع كضمانة أساسية للحياة. لكن الجولة الثانية من تحرير السوق التي بدأت في السبعينات لم تخلق أشكالاً جديدة من إدارة الخوف العام، بل جرى خصخصة طريقة التعامل مع الخوف، وتركت كل شيء للمبادرات والجهود المحلية، وانتقلت في جزء كبير منها إلى عناية الأفراد، وإلى الأسواق التي تكره بشدة وتقاوم كافة أشكال التدخل الجماعي ناهيك عن السيطرة الجماعية (السياسية).حيث اصبح المجتمع والافراد عراة امام قوة المنافسات .
رهاب الهويات القاتلة
يوضح باومان اننا نعيش انتاجا كثيفا (وربما قهري ووسواسي ) للمعنى والهوية، حيث لم تعد تلك الهويات قادرة على الاحتفاظ بشكلها زمانا طويلا، ولا أمل لها في ذلك لأنها تتحلل وتنصهر بسرعة أكبر من سرعة إعادة تشكلها. ويتفكك مفهوم المجتمع نفسه من جذوره. بسبب سيولة الأبنية الاجتماعية وسرعة تغيرها وتحول التاريخ السياسي للمجتمعات والافراد وأنماط الحياة إلى سلسلة من مشروعات لا متناهية، لقد تلاشت كل الصور الرومانسية للعلاقات الاجتماعية التي رسمت في البال لأعوام، بل ولعقود، من خلال خضوع العلاقات الإنسانية للتسليع والاستهلاك (يجتمع المستهلكون في فضاءات استهلاكية مادية ملموسة، مثل قاعات الحفلات الموسيقية، وقاعات المعارض، والمنتجعات السياحية، ومواقع الأنشطة الرياضية، والمجمعات التجارية، والمطاعم، وذلك من دون أن يكون لهم أدنى تفاعل اجتماعي فعلي) انها لحظة البؤس البشري.