زهير الجبوري
لم تكن الخطوة الكبيرة التي شهدها الشارع العراقي سوى انعطافة كبيرة للكثير من المتطلبات والرغبات والأمنيات المؤجلة، هي في حقيقتها مشاريع رسمت في ذهنية الناس، ربما لأنَّ العالم اليوم في كل أماكنه أصبح حاضراً عبر وسائل الاتصال (الميديا)، وبالنتيجة فإنَّ لكل من يرغب زيارة أية مدينة يستطيع في ضربة (زر عبر الغوغل) أنْ يتعرف على معالمها وطبيعة أهلها وكل التفاصيل المرتبطة بها، بمعنى اننا حين نتواصل مع شعوب العالم نستحضر الأعراف والتقاليد الاجتماعية والبيئية والممارسات الأخرى مهما كانت بيئتنا المحافظة حذرة ولها أجواؤها الخاصة،
ولكن حين تكون ظاهرة اجتماعية تتكرس في إعادة قراءة الشخصيات التي لها بعدها الثقافي والاجتماعي، هذا أمر شديد الحساسية، وما حصل في مدينة الحلة أمرٌ يستحق الوقوف عنده من خلال ما شاهدناه قبل أيام من رفع الستار عن نصب الشاعر العراقي موفق محمد في مركز مدينة الحلة بعد أنْ كانت المبادرة من قبل أحد أبناء المدينة (طبيب العيون: عادل الكرعاوي)، ولعلني هنا لا أتحدث عن موضوع ثقافي يخص الشاعر المعروف بقدر ما أثارتني قضية (ظاهرة الأثر) عند أبناء المدينة أو عند الكثير ممن شاهد وسمع بهذا المشروع في جميع أنحاء العالم، لأنَّ الحضور الاجتماعي وكيفية ترك بصمات مؤثرة فيه جعل هذا الجيل او الأجيال السابقة تستنهض دفعة واحدة العلامات البارزة والمؤثرة لشخصية لها بعدها الاجتماعي والتربوي والثقافي، وحديثي هنا لا بوصفي تلميذاً للشاعر فحسب، إنما الشاهد على الكثير من المواقف التي شَهدتُ عليها من قبول أبناء مدينة الحلة لشخصية الشاعر لأنه باختصار توصل الى غاية الناس في التعبير عن خلجاتهم، وهو بذلك اختصر خطاب الوجع العراقي عبر عقود متتالية، فالنصب الذي اكتمل وسط فرحة الحضور من كل مكان هو تعبير عن شخصية شاهدة.. ولكن؟ .. كم نحتاج لمشاريع تثبت رموز مدننا، وكم نحتاج الى قراءة شخصياتنا التي تشكل ظاهرة في المجتمع؟!. وعندما يكون المشروع برمته اجتماعياً، فهذا يؤكد وعي أبناء المجتمع في اختيارهم السليم، وفي الوقت ذاته تعبر عن كسر ظاهرة المشاريع الأحادية للأفكار السياسية الدكتاتورية، لأنها ستزول حتماً مع زوال حقبة الحكم، مثلما حصل مع السلطة الحاكمة قبل 2003، فالنصب التذكاري الرمز يتعامل معه المجتمع وفق رؤى متوازنة، بمعنى تعامل معياري دقيق، وهذا ما حصل في المدينة التي أسكنها، فما كان النصب التذكاري للشاعر صفي الدين الحلي سوى ذاكرة المدينة عبر زمن طويل، كنت أشاهده يومياً عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية قبل أكثر من عقدين ونصف، فقبل دخولي المدرسة ينتصب تمثال صفي الدين الحلي بشكله الافتراضي بكل هيبته، هو الآن لم يتغير في المرحلة الراهنة، لذا، وجب علينا الإشارة الى فعل التناظر بين الشخصيتين، فالمدن تُعرف بأسماء مبدعيها، والأمر ذاته في مدن العراق كافة، فلكل مدينة رموزها الخاصة في جميع المجالات، ولعلَّ المرحلة الراهنة التي نعيشها شكلت انعطافة كبيرة في اختيار الذائقة الجماليَّة من أبناء المجتمع بعيداً عن (طواطم) ذهبت مع الزمن الغابر، والملفت للنظر أنَّ الذائقة الشفاهية تغيرت عندنا، فحين مرّ الشاعر بسيارة مع أحد الأصدقاء بقرب نصبه، استوقفته (سيطرة)، وعندما سألهما الشرطي الحارس عن الوقت المفترض قد انتهى بسبب الحجر الصحي المفروض، قال له الشاعر إذا أردت هويتي فانظر الى هذا التمثال، ابتسم الشرطي وقال (هذا أنت أستاذ وبعدك عايش)، فالتصورات الهائمة في الذهن تكشف عن كسر رتابة الذائقة في
التلقي.
وأخيراً، فإنَّ المشروع الاجتماعي الذي ينبثق من شخصيات اجتماعيَّة لا بدَّ أنْ تكون مصدراً موثوقاً ومهماً عند
الدولة.