جبار النجدي
إن الناس لا يتصرفون عادة بالطريقة نفسها وكذلك الشعر الذي ينتظر على الدوام لحظة التجلي واشراقاتها المغايرة في طبيعتها، فلا يمكن الركون الى الضوابط في الشعر بوصفه كائنا يعمل على كسر حواجز القوانين وموجودات المكان وينفلت من أحكام الحياة ومألوفاتها في العادة إن الشاعر يرقب باستمرار الومضة الضئيلة الماثلة في الظلام التي يطلقها فنار ما في الفضاء الواسع وذلك متعلق بأنظمة الانتاج الشعري وتغير أنماط التلقي علاوة على إن اي شكل من اشكال الاتصال هو كتابة تحتمل قراءة ما يحدث بالنظر من لمحات من شأنها أن تستأنف دور الشعر على أكثر من صعيد لكي لا تقف بمضاهاة غيرها اعتقد إن من الصواب أن تشتد الحاجة لكثير من التنوع في الشعر ثم ان حاجات البشر مجهولة لكونها فانية والمجهول هو في حقيقة الأمر يضمر شيئا لا يبديه، فلندع الزمن يمضي ونرى ماالذي يحمله وذلك من شأنه أن يدلي ببيانات شعرية متنوعة تلتقطها الرؤية البليغة المتبصرة ولنقف امام ما يقوله الشاعر عبدالكريم كاصد :
عصفور
يقف على النافذة
يحملها ويطير
ويطلعنا نص آخر على فرصة اعادة التزود بالمعنى والدلالة بطريقة مختلفة في الابصار، اذ يضعنا مقطع شعري قصير أمام أمرين يظهران المقابل النفسي للشيء في علاقة متناوبة بين أنين النافذة والطريق :
كثيرا ما اسمع أنين النوافذ
وهي تدير ظهرها للطريق
وتنتحب
من جهته فان الشاعر علي ابوعراق يذهب في لمحته الشعرية الى حالة من الاغتراب فهو لا يجعل النص في موضع الختام حينما ينتهي، فالغياب متأصل في النص ورديف لوجوده فتبقى ظلاله تطوف في أزمنة أخرى وقابلة لمبادلة زمنها بزمن سوف يجيء ليفضي ذلك الى انخراط الأزمنة في زمن النص الذي تتطلبه توجهات النص وإيجازاته، اذ لا يتم عزلها وراء قناع حتى بعد انقضاء النص على بياض الورقة وهو تحليق شعري يحمل قدرا من التفكير المتضارب بفضاءات ثرية للوجود الشعري :
حين تهت في
الزحام
وجدت نفسي
ويطرح نصه الآخر فكرة الاتصال بمعطيات الطبيعة التي لها وجود شعري ومصائري بين الحيوانات التي لا تسعى الى ملاقاة اصلها لتصبح قاصرة عن مثيلاتها متأبية من رعب الموت المحتمل وما تحدثه من تأثير صادم وقلق في محاولة من الشاعر لاستنطاق مخاوفها :
ستموت افراخ مالك
الحزين
خوفا وجوعا
مادام افراخ النسر
في ذات الغابة
كذلك تلتقط اللمحة الشعرية معاني يصعب حضورها في اوقات قصيرة ومتعددة المراتب وتستطيع ان تنسج مزاياها الخاصة بها، فلها جرسها الخاص ووقعها السحري ومسالك ليست معلومة ما يجعل الكثيرين يلاحظون بيسر لمحات تشبهها، لاسيما في صياغاتها المبتسرة ورشاقتها غير الفضفاضة في التقاط صور نادرة من الحياة وهذا من شأنه دفع الضجر الذي تولده المطولات الشعرية التي تعول بالاساس على بيت القصيد وهذه لمحة شعرية تمثل اخص خصائص هذا النمط من الشعر للشاعر عباس الصفار :
كثيرا ماتردد
انك في دمي
في جرحك النازف
إني لا اراني
ونكتشف في هذه اللمحة الشعرية نوعا من بداهة الشعر الذي يجمع بين الفنتازية والفطرة إن قوة اللمحة الشعرية لا نجدها في سياقها المتداول، بل في ما خفي منها من غرائبي يسوقه اللامعقول واللا متصور للشاعر رافع بندر :
علمني ابي
أن أشتري حقائب
كبيرة
كي أحمل الدروب فيها
خوف ان تضيع
هذه الاضمامة المتفرقة لقصائد اللمحة الشعرية لشعراء متفرقين تتجلى لديهم بأكثر من منظور ويجلب انتباهنا الشاعر داود الفريح في شدة حماس الشعر للايجاز لدرجة ان اللمحة غير بادية للعيان ولعلها تتقن الاختفاء السريع فور ظهورها وكأنها اكذوبة لا تنضب لكنها تقع في موضعها وتصيب غرضها :
الشجرة التي كتبت
عليها اسمك
ذات جنون
هي الآن
حطبا للموقد.