جدل الحماية وفقدان الحريّة

ثقافة 2020/06/01
...

محمد صابر عبيد
 
تقوم فكرة الجدل أساساً على نظرية الفيلسوف الالماني الشهير جورج فيلهلم فريدريش هيغل الذي طوّر المنهج الجدليّ، وأثبت أن حركيّة التاريخ والأفكار تتمّ في سياق وجود أطروحة معيّنة ثم نقيضها ثم التوليف بينهما إنتاج أطروحة جديدة، وكان بذلك هيغل آخر بناة "المشاريع الفلسفية الكبرى" في العصر الحديث وكان لفلسفته أثر عميق في معظم الفلسفات المعاصرة، غير أن فكرة الجدل القائمة على فعاليّة الثنائيات هي أكثر ما اشتهر به في هذا المضمار.وصارت تعرف باسمه بحيث لا تذكر مفردة "جدل" إلا ويحضر اسم "هيغل" فوراً وبلا مقدّمات بوصفه المنظّر الأبرز لهذه النظرية الفلسفيّة الشهيرة.
جدلية "الحماية وفقدان الحرية" انبعثت في رؤيتنا هنا إثر ما أفرزته الهجمة الفيروسيّة المدمّرة التي حلّت على البشريّة مطلع عام 2020 في ما سمّي "كوفيد 19"، وفي مقدّمة هذه الإفرازات ما اصطلح عليه "الحَجْر الصحيّ المنزليّ" الذي أرغم ثلاثة أرباع سكّان الكرة الأرضيّة على التزام بيوتهم، فقد تركوا أعمالهم ومشاريعهم وحياتهم الحرّة والعمليّة خارج البيت وقبعوا في بيوتهم هاربين من هذا الفيروس الذي يتجوّل بحريّة في كلّ مكان، فنشأت ثقافة جديدة يمكن تسميتها "ثقافة الحجر الصحيّ المنزليّ" أنتجت عادات وتقاليد وأفكاراً وقيماً مغايرة، لم يكن الإنسان المعاصر يفكر فيها قبل ذلك قطّ على نحو جعلها تتقدّم شواغل الناس وقضاياهم وتطلعاتهم، فصار الحجر هو العنوان الكبير الذي يشترك به معظم البشر في عالمنا المعاصر، من أكثر الدول قوّةً وتحضراً وثراءً إلى أفقرها وأكثرها تخلفاً وبداوةً.
تنهض قضية الحجر على ثنائية جدليّة هي "الحماية وفقدان الحرية"، فمن يضع نفسه في الحجر الصحيّ المنزليّ يضمن "الحماية" من انتقال الفيروس إلى جسمه ويحقّق بذلك الهدف المرجوّ من هذه الفعاليّة الإنسانيّة، لكنّه في الوقت نفسه يفقد "حريّته" في كسب عيشه والتنقل والتنزّه واللقاء بالآخرين التي كان ينعُم بها قبل ذلك، في معادلة قاسية يدفع فيها كلّ طرف ثمناً باهظاً لحساب فضاء الطرف الآخر، فلو تمرّد المرء على الحجر في دفاع طبيعيّ عن حريته المستلَبة سيدفع الثمن غالياً، إذا ما أصابه الفيروس فيندم على ذلك ندماً قد يكلّفه حياته، وفي الوقت نفسه عليه أن يتحمّل ثمناً باهظاً للحصول على حماية صحيّة يظفر فيها بحياته وصحته حين يخضع للحجر، وبين طرفَي المعادلة لا بدّ وأن يعيش الإنسان صراعاً مستمرّاً يجد نفسه مرغماً عليه، ينقم فيه مرّة على ما آلت إليه ظروف حجره، ويحمد الله مرّة أخرى على أنّه لم يصب بهذه الجائحة القاتلة.
نشأتْ في ظلّ هذه الأوضاع المأساويّة -طبّياً واقتصادياً واجتماعياً ونفسياً- ثورة إعادة تعريف الأشياء وإعادة إنتاجها معرفياً وسلوكياً، ولاسيّما المفاهيم المتعالية التي يمكنها استيعاب حركة الكون ما بعد كورونا وتسيير نظريات مختلفة على سكّة الحياة الجديدة، يكون الإنسان فيها محور العناية وليس رأس المال فقط، وسيختفي في هذه الحال مفهوم الحياة الباذخة بأدواتها الكماليّة غير الضروريّة جداً، وضمان طرائق الرسم الماديّ الهندسيّ المقنّن للسعادة على الأصعدة كلّها، حتى على صعيد الصناعة التي ستتجّه نحو إنتاج الحاجات الأساسيّة الضروريّة وبأقلّ ما يمكن من البذخ الصناعيّ غير الضروريّ، والاكتفاء با هو متاح من السبل لتحقيق متطلّبات الشكل الضروريّ البسيط من الحياة في ظلّ قناعة اضطراريّة على الناس جميعاً العمل بها، واتخاذها سبيلاً جديداً للحياة، فرضتها ظروف قاهرة لا مجال للتهاون بشأنها أو اللعب معها بأيّ شكل من 
الأشكال.
تتجّه الفعاليّة الثقافية الآن نحو إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعيّة ومقتضياتها وفعالياتها وتفاصيلها وتمثيلاتها، وتفعيل صورة جديدة للتفاعل والتواصل الجسديّ بين البشر تنهض على فكرة التباعد بدل التقارب قدر المستطاع، فهل سيتغيّر ذلك مع شبكة مفاهمية أساسية في الحياة كالحبّ والجنس وغيرها أيضاً على سبيل المثال؟ هل ستنتج الطريقة التواصليّة الجديدة باستخدام تطبيقات السوشيال ميديا عن بعد ثقافة جديدة تقلّص كثيراً من النفقات، وتصبح العلاقة القديمة وجهاً لوجه بالحضور الجسديّ الملموس شيئاً من الماضي؟ وهل سنشهد مفهوماً جديداً للجسد في علاقاته بالمحيط والأشياء والقيم والممارسات؟
أحدثَ انتشارُ فيروس كورونا -من ضمن ما أحدث من عواصف اجتماعيّة وثقافيّة كبيرة في الممارسات الثقافيّة والوجدانيّة- تغيّراً في العادات والممارسات الدينية التقليديّة مثل هجر المساجد والكنائس، ثم الاستغناء عن المدارس والجامعات والدوائر والمنتجعات والحدائق العامة والكافيهات والمطاعم، وصارت البيوت هي الملاجئ والملاذات التي تمّ اكتشافها إرغاماً وإكراهاً وليس اختياراً، في ستراتيجيّة جديدة تقوم على التعامل عن بعد في كلّ شيء، بحيث صار البعد هو الأساس الصالح للعيش والحياة والمقدّس، والقرب هو المخيف والمرعب والمدنّس، وقد سبق للمتصوّفة أن قالوا "القربُ 
حجاب"!
لا شكّ في أنّ فعاليّة التعليم عن بُعد تسهم في تقليل نفقات بناء المدارس وحركة الطلبة والمعلّمين وما يرافقها من تفاصيل إجرائيّة، كانت سابقاً في عمليّة التعليم عن قُرب كثيرة ومعقّدة تستنزف كثيراً من المال والجهد، وهي اليوم بأدنى ما يمكن من النفقات بما يجعل نظريات التعليم المقبلة في هذا المضمار أقلّ كلفة وأيسر حركة وجهداً، إذا ما تحوّلت مستقبلاً إلى دعوات تطالب بتعزيز فكرة التعلّم عن بُعد وبناء ستراتيجيّات تعليم جديدة أكثر شيوعاً وتبنّياً وتطبيقاً.
لعلّ استعراض الوضع الاجتماعيّ والثقافيّ الكونيّ الجديد بهذه الصورة الشائكة الرجراجة، وطرح فكرة العودة إلى الطبيعة وإعادة إنتاجها على وفق نظريات عمليّة وإنسانيّة تعطي لنظافة البيئة حصّة أساسيّة، قد تؤول إلى مسارات حضاريّة مغايرة تُنجِب لغة أخرى بمعجم لغويّ آخر يستولد دلالات أخرى للدوال، وتصنع معايير جديدة لمقاربة حركيات التعبير والتشكيل والتصوير بما يجعل صوراً مثل الحذر الوجدانيّ والعاطفيّ، وزمان الوصل وزمان التباعد، والمبالغة في النظافة إلى حدّ الهوس، وأشياء أخرى لا حصر لها، داخل قوس المساءلة والمحاسبة والتقويم، للوصول إلى عتبةِ كونٍ نظيفٍ على المستويات كافّة بوسعه الاستعداد مبكراً للتعاطي مع كوارث قادمة هي في طريقها إليه 
لا محالة.