قيمة الدينار!

الصفحة الاخيرة 2020/06/02
...

 جواد علي كسّار
 
على عادته غاضبٌ على الدوام حاد متطرّف، هكذا واجهني أحد الأصدقاء الحميميين على الهاتف، وهو يتحدّث بحنق وامتعاض عمّا وصفها بالكارثة المحدقة بنا، إذا تمّ فعلاً تخفيض قيمة صرف الدينار العراقي إزاء الدولار!
هذا هو أسلوبه على الدوام منذ جمعتنا علاقة وطيدة على مقاعد الدراسة الإعدادية قبل أكثر من أربعة عقود، وكحال كثير من لم يتغيّر مزاجه المنفعل، ولم تُدجّن طبعه تجربة حياةٍ حافلة بالعمل الثقافي والاجتماعي على مدار عقود. طمأنته أن دراسة صدرت عن البنك المركزي العراقي قبل أيام، بعنوان: «تخفيض صرف الدينار العراقي: المحدّدات والبدائل» استبعدت أن تلجأ الحكومة إلى مثل هذا الإجراء، على الأقلّ في الوقت الحاضر. لقد أشارت الدراسة إلى ثمانية عوامل ذات صلة بالموضوع، منها تأثير التخفيض المفترض في المستهلك، وفي الزيادة في النموّ الاقتصادي، ثمّ التأثير المرتقب في الفئات الاجتماعية التي تعتمد الدعم الحكومي، ثمّ تساءلت عن قدرة السياسيين المالية والنقدية في مواجهة الآثار التضخمية، قبل أنْ تخلص إلى نتيجة حاسمة مفادها أنَّ الحكومة إذ تلجأ إلى هذا الإجراء لتغطية عجز الموازنة، فهي لن تكسب شيئاً على حدّ الدراسة، لأنَّ ما تكسبه بالتخفيض تعود لتخسره بتعويض التضخّم.
بدلاً من ذلك أوصت دراسة البنك المركزي بإيجاد خطوات عملية بديلة عن التخفيض، وحثّت الحكومة لمواجهة أوجه الهدر في موارد الدولة، لأنَّ عملية مثل هذه لو حصلت، يكون بمقدورها أن توفّر للحكومة أضعاف أضعاف الأموال التي يمكن أنْ تتوفر من تخفيض قيمة الدينار. ضربت الدراسة لذلك مثلاً من نفقات الكهرباء التي يُبذل لها سنوياً (20) مليار دولار، بينما لا يُستحصل من هذه النفقة سوى أقلّ من 10 ٪ فقط. وبينما تبلغ قيمة استيراداتنا نحو (50) مليار دولار سنوياً، فلا تجني الحكومة من هذه المليارات الخمسين من الرسوم الكمركية وغيرها، إلا (10) فقط!
على هذا الغرار اقترحت دراسة البنك المركزي أنْ تلجأ الحكومة الى توفير الأموال عن طريق اختزال النفقات في هذه الموارد وترشيدها، لأنه برأيها أجدى في تغطية عجز الموازنة وجبران تبعات الأزمة الحاضرة، الناشئة عن انخفاض أسعار النفط وكورونا معاً.
أعود الآن لصديقي الذي طلبتُ منه أنْ يطمئن إلى أنَّ الاتجاه العام لسياسة الحكومة حتى الآن، هو عدم المساس بقيمة الدينار العراقي، حتى أنني سمعتُ من محافظ البنك المركزي مباشرة، أنَّ البنك على استعداد لضمان بقاء سعر الصرف عند مستوياته الحالية لمدّة خمس سنوات قادمة. واعترفتُ له بصراحة أنَّ مصلحتي الشخصية كمواطن، أنْ يبقى الدينار بقيمته الحاضرة، لأنَّ ذلك يسهّل لي ولأمثالي شراء الدولار بسهولة للسفر أو للعلاج خارج العراق، كما اعترفتُ له أيضاً أنَّ هذا السعر يساعد على ادّخار مبلغ من الدولار لي ولغيري، كي يكون ضماناً لتقلبات الدهر ومتطلبات آخر الحياة في آخر العمر!
لكن تساءلتُ معه بصراحة، هل يعدّ إبقاء سعر الصرف بقيمته الحالية من مصلحة البلد، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار، أن الدولار النفطي يؤلف أكثر من 90 ٪ من مصادر دخلنا؟ تسجّل التقديرات أنَّ أدنى ما يُهرّب سنوياً من عملات صعبة لخارج العراق إلى دول الجوار ودولٍ أخرى، يصل إلى ملياري دولار؟
لا أطيلُ عليكم القصة اتفقنا وصديقي الغاضب آخر المطاف، على أنَّ أحد الحلول الممكنة للمستقبل، هو الخفض التدريجي الممنهج لقيمة الدينار أمام الدولار، لكنْ قطعاً ليس بأسلوب الصدمة أو التعويم، كما حصل لبلدانٍ كثيرة من حولنا، اندفعت للتعويم بقرار مبرمج كما حصل في مصر وتركيا، أو التعويم الإجباري تحت ضغوطات الاقتصاد والحرب والحصار، كما حصل في إيران وسوريا.
لا أحد يفكر اليوم بإخراج ولو دولار واحد من إيران ومصر وسوريا وتركيا، لأنها عملية غير اقتصادية؛ ما يحصل هو العكس، فإنَّ هذه البلدان وأمثالها تحوّلت إلى أسواق جاذبة للدولار.
طبيعي ليست هذه دعوة إلى التعويم، بل هي أفكارٌ عامة للتداول، وتبقى القرارات الصائبة في مثل هذه القضايا الخطيرة، هي تلك التي تعتمد على الدراسات المختصّة، والتجارب الناجحة، وما أكثرها من حولنا!