سلطة المعرفة سلطة المستقبل

آراء 2020/06/02
...

أ.د عامر حسن فياض
 
نشر المفكر الانكليزي ( توماس هوبز) في العام 1651 وقبيل اندلاع الثورة الصناعية كتابه الشهير "الليفاثان" الذي استمد عنوانه من اسم وحش بحري اسطوري قوي استخدمه في هذا الكتاب، ليشير به الى (الدولة) ذات السلطة القوية المراد تحقيقها ان كانت محققة في القرن السابع عشر الذي جرت العادة على وصفه بقرن السلطة، ولكن العالم يدخل اليوم عصر ثورته الجذرية الثالثة (ثورة المعلوماتية والاتصال)مخلفاً وراءه ثورتين سابقتين عاشهما الاولى (الزراعية) والثانية (الصناعية)، وتتمثل العلامات الفارقة للثورة الثالثة في تحولات كبيرة في شتى ضروب الحياة المجتمعية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية).
ويقدم (آلفين توفلر) بكتابه المعروف (تحول السلطة) اطروحة فكرية جديدة عن انعكاس تلك التحولات على السلطة السياسية واثرها في انتقال مصدرها من القوة والثروة الى المعرفة، وتفيد هذه الاطروحة بأن ثمة ثورة تجتاح عالم ما بعد (روجر بيكون) وليس بوسع اي عبقري في السابق مثل (سن تسو) ولا (ميكافيللي) ولا (بيكون) نفسه ان يتخيل ما تشهده هذه الايام من منحى عميق في تحول السلطة والمتمثل في هذه الدرجة المذهلة التي اصبحت بها القوة والثروة تعتمدان على المعرفة حالياً. ان المعرفة نفسها لم تعد هي المصدر الوحيد للسلطة فحسب بل انها اصبحت ايضاً اهم مقومات القوة والثروة، وعلى هذا الاساس يمكن ان نفهم لماذا اخذت المعركة الدائرة من اجل التحكم في المعرفة ووسائل الاتصال تشتد الان وتحتدم في جميع ارجاء عالمنا المعاصر؟ فمنذ عقد التسعينيات شهد العالم ثلاثة متغيرات قلبت اشكال وجواهر المنظومة الفكرية التقليدية تمثلت بـــــ (ثورة المعلومات والاتصالات وسقوط الشمولية السياسية والتدويل المضطرد 
للعالم).
وبخصوص المتغير الاول يمكن القول إن الايديولوجيا كانت في الماضي عنواناً لكل ماهو سياسي والدولة القومية معادلا للشكل الاكمل والامثل للتنظيم السياسي ومبدأ السيادة هو جوهر الدولة المستقلة وعنوانها البارز، ولكن ثورة المعلومات والاتصالات جعلت كل ذلك جزءاً من ماض توارى وتاريخا مضى لان هذه الثورة تخطت القوميات ودولها وجعلت الحدود والسيادة موضع عجز وتخط بفعل الفاكس والانترنت واطباق البث والالتقاط الفضائية، ناهيك عن الشركات والمؤسسات العالمية، التي لاوطن لها ولا مركز مكانيا معلوما يحصرها، اما بالنسبة للمتغير الثاني (سقوط الشمولية السياسية) فاذا كانت الحرب العالمية الاولى قد مثلت انتصار مبدأ القوميات فإن الماركسية اللينينية كانت الفاعلة الفكرية السياسية الوحيدة التي قفزت على هذا المبدأ وفق نظرية حرق المراحل ليبدأ عصر ما بعد القومية في أوروبا في مواجهة اقصى واقسى ما وصل اليه مبدأ القوميات هناك متمثلاً بالفاشية والنازية، واذا لم يكن مبدأ القوميات قد تحقق اشباعا لحاجات شعوب اخرى في مستعمرات واشباه مستعمرات ما يسمى ببلدان العالم الثالث، فان مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية شكلت بداية سقوط الشمولية السياسية بصيغتها القومية،هذا السقوط الذي بدأ بانهيار وانحدار الفاشية والنازية، ثم تواصل بانهيار تجربة الاتحاد السوفييتي كصيغة من نوع آخر للشمولية السياسية، وعند الحديث عن المتغير الثالث (التدويل المضطرد للعالم) نقول إن التأثيرات السلبية التي عانى منها مبدأ السيادة وغلبة مصطلح الدولية اليوم بمفهومه المتعارض مع مفهومي القومية والاقليمية وبزوغ عصر التنظيمات الدولية بقوة، تسبب جميعها في ظهور مفاهيم جديدة تشير جميعا الى حالة التدويل المضطرد والمتسع لعالمنا المعاصر وهو ما ادى الى ظهور مفهوم الجماعة الدولية، بديلاً عن الجماعة القومية ومفهوم السيادة العالمية، بديلا عن السيادة الوطنية ومفهوم المواطن العالمي بديلا عن المواطن الاقليمي ومفهوم الحرب بالتكنولوجيا بديلا عن الحرب بالبندقية... الخ. وقد دفع مجموع هذه المتغيرات الى بروز ظواهر سياسية واجتماعية رئيسة محتملة ذات اثر كبير في تشكيل منظومة الفكر السياسي المعاصر، ابرزها ظواهر النوستولوجيا nostalagiaوحوار الثقافات وتشكيل ثقافة عالمية وحرب المعلومات والتحولات الاقتصادية، وتعرف ظاهرة النوستولوجيا بأنها تعني التوق غير السوي للماضي أو محاولة استعادة حال سابق يتعذر استرداده نتيجة لعدم قدرة الذات الفردية ولا الجماعية على التكيف مع المستجدات والمتغيرات، ما يجعل النوستولوجيا نوعاً من الاغتراب عن العصر ومستجداته وشكلا من اشكال الحنين الى الماضي وهي ظاهرة ليست فردية (تخص شاعراً رومانسيا مثلا)، بل ظاهرة جماعية تخص جماعاتٍ او أمما ، انها كل مفهوم يستند الى مفردة مثل (الرجوع – العودة – الانبعاث- الاحياء- الالتفات الى ماكان – النهوض بعد الموت .... الخ)، وهي سياسا اشارة الى العجز عن التكيف مع مستجدات العصر وعدم استيعابها من ناحية ورفض هذه المستجدات من ناحية اخرى مع الاقتناع بأن هذا الرفض لن يؤدي الى نتيجة ايجابية من حيث تحقق التوقعات. وهنا قد يدخل العنف في الموضوع، ففي بداية الثورة الصناعية في انكلترا وأوروبا الغربية عبر العمال الذين شردتهم الآلة عن غضبهم عليها بتدميرها بسلوك عدواني عنيف نتلمس منه وفيه حالة نوستولوجية تحولت الى سلوك متطرف بحكم الحنين الى الماضي والخوف من الحاضر والمستقبل، كما نتلمس في ذلك ايضاً عدم القدرة على التكيف مع المتغيرات الجديدة وعدم امتلاك حل عقلاني للمشكلات المترتبة على هيمنة الآلة، فلم يبق هناك الا سلوك يائس اخير وهو تحطيم الآلة ذاتها، ونشهد اليوم ذات السلوك في كل زوايا واطراف المسرح العالمي من دون استثناء مثل ( معاداة الاجانب والمهاجرين في أوروبا واميركا – الحركات الدينية السياسية المتطرفة في الشرق والغرب على 
السواء).