التباعد العاطفي خيار أم إجبار؟

ثقافة 2020/06/02
...

ميادة سفر
 
أفرزت الحاجاتُ المتزايدة للأفراد، والأوضاع الاقتصادية التي ازدادت سوءاً في السنوات الأخيرة، وضعاً صعباً أدى إلى سعي البعض للبحث عن موارد إضافية للعيش، وتحسين مستوى المعيشة وتأمين المتطلبات المستجدة في الحياة المتسارعة أصلاً، 
 
فقد أصبح الإنسان يعمل أكثر مما يستمتع بثمار عمله، وذلك بسبب التسارع على مختلف الأصعدة ورغبة الأفراد في مواكبته. فضلاً عن طموح الكثير من الجيل الشاب في متابعة تحصيلهم العلمي في الدول المتطورة، التي بإمكانها أن تحقق لهم مستقبلاً آمناً وتفتح لهم فرص عمل بظروف جيدة.
كل ذلك أدى إلى حزم الكثيرين لحقائبهم واختيار بلد ما والسفر إليه، الأمر الذي يعني بعدهم عن أهلهم وأحبتهم وأصدقائهم، ولم يقتصر هذا الخيار على البعد المكاني والجغرافي، بل تمثل في بعد عاطفي بين أشخاص ربطتهم علاقات اجتماعية وعاطفية لوقت طويل، الأمر الذي كانت له تبعاته المختلفة التي ترتبت عليه، من جفاء أحياناً وبرود في العلاقة حيناً آخر، وانقطاع لأواصر كثيرة كانت 
تجمع بين الناس.
ما أشبه حالنا اليوم بحال أولئك الذين كانت مشيئتهم ذات يوم أن يهاجروا أو يسافروا، أو ربما النأي بعيداً عن محيطهم الاجتماعي، فما فرض على العالم بسبب انتشار وباء كورونا لا يختلف كثيراً عن حال من تحدثت عنهم في بداية هذا المقال؛ الباحثين عن فرصة جديدة، بفارق أن قرار التباعد الاجتماعي اليوم فرض رغماً عن الكثيرين بصرف النظر عن قبولهم أو رفضهم.
أياً كانت الأسباب التي أدت إلى البعد، فإن آثارها تكاد تكون واحدة أو متشابهة إلى حدٍ كبير، فقد ضعفت وتراجعت العلاقات الاجتماعية، وتقلصت المناسبات الجماعية التي لطالما لمّت الشمل، وباتت المجاملات سيدة الموقف، واقتصرت على اتصالات هاتفية بين الأشخاص الأكثر قرباً.
إنَّ التباعد العاطفي أرخى بظلاله على أكثر العلاقات التي اعتبرت حميمية حتى وقت قريب، فالشاب الذي غادر حبيبته بحثاً عن فرصة عمل أو دراسة، نراه بعد وقت يبحث عمن يملأ الفراغ العاطفي الذي يعيشه، فانتهت قصص حب عاصفة، وانفرطت عقود وعهود، وتفككت أسر وتشرد أولاد، ومات آباء وأمهات وحيدين في بيوت مهجورة إلاّ من روائح أولادهم.
وبطبيعة الحال لا يمكن تعميم ذلك على الجميع، بل بقي الكثيرون محافظين على الوعد والعهد، ولم يقطعوا حبال الود مع أهاليهم وأقربائهم وأحبائهم، لكن لا يمكننا إلا الاعتراف بأن ثمة تغيرا ما سيطرأ على الحياة حين تُغيّر فيها شيئا ما، فما بالك بالمسافات البعيدة.
استطاع التطور التكنولوجي اليوم التخفيف من وطأة البعد وتقريب المسافات بشكل أو بآخر بين الأفراد، لكنّه يبقى منقوصاً لا سيما لدى شعوب اعتادت التعبير عن مشاعرها وأشواقها بالمعانقات 
والقبلات والاحتضان.
إننا مدعوون اليوم إلى أن نعتاد ممارسات جديدة، بحيث لا تدع مجالاً للتباعد العاطفي بأنْ يتمدد.