رحيل الشاعر صلاح ستيتية يضعنا أمام الأسئلة التي تبحث عن تاريخ لها، حيث البحث عن تعالقها مع الأثر الشعري، ومع مرجعيات الشرقي القادم من ذاكرة مزحومة بالسحر.. لقد رحل ستيتية بعد أنْ ترك كثيراً من تلك الأسئلة، ومن مقارباتها المحايثة لذاكرة اللغة، وتوهجات مغامرة الشعر، والأحلام التي ظلّت تدفع قرّاءه الى محاولة رؤية العالم من خلال منصة القصيدة وتحولاتها وسرائر مفاتيحها الأسطورية والصوفية.
قصيدته الإشراقية رهانٌ على عالميَّة الشعر، فهو يكتب ليمارس حقّه في المتعة، وفي الرؤيا، وفي التفكير بعيداً عن أخطاء العالم، تجذبه اللغة الى استعاراتها الكبرى، لكي يغور في "جوانياتها" بحثاً عن النسق المتوهج، وليس المضمر، وعن جمال الاندهاش الغامض وليس جمال التواصل بوضوحه وسهولته، وهذا ما جعله يلتمس طريقاً سحرياً مشوباً باستكناه ما تُفضي إليه كتابة القصيدة، من معانٍ، أو أسرار، أو طلاسم تتعالق فيها روح الشرق، وتمثيلات القصيدة الجديدة المُفارقِة، فكان ينحاز الى مالارميه وايف بونفوا ورينيه شار، مثلما هو انحيازه العميق الى ابن عربي والحلاج وجلال الدين الرومي، والى كشوفات الاستشراق العميقة.
كان ستيتية قريباً من كلِّ شيء، من الحياة، والسياسة، والحب والشعر والرسم، ومن المقهى والجريدة، ومن فكرة الشرق، وهذا ما أكسب قصيدته زخماً متدفقاً، جعلها أكثر تأثيراً في طاقة الشعر الجديدة في العالم، وفي العراق بشكلٍ خاص، لا سيما جيل السبعينيات والثمانييات، إذ وجدوا في قصيدة ستيتية ملامح الشاعر الشرقي الذي اشتبك بوعي مع الروح الفرانكفونية، أعطاها توهج التصوف، وشغف الحالم، وعرفانية الخلاص، وهذا ما يجعل الحديث عن موت الشاعر صلاح ستيتية وكأنه حديث عن إغلاق مرحلة مهمة من ذاكرة التحوّل الشعري، ومن يوميات الزمن الذي عرف فيه الشعراء العرب، أن القصيدة تملك وحدها سر العبور الى الآخر، بوصفه التمثيلي، والنقدي والانساني، حيث تمارس معه، وعبره نوعاً من التجريف اللغوي الذي يسحب التاريخ والتصوف والحلول الى الآخر دون عقد أو اكراهات
قاتلة.
ستيتية وروح الصورة
يقال إنَّ صلاح ستيتية قد ترك أثراً كبيراً يضم 250 لوحة ومنحوتة ومخطوطة وصوراً كانت معروضة في متحف بول فاليري، وهذا بطبيعة الحال مدعاة لكشف علاقته بتلك الاشياء التي يحبها، والتي لم يشأ الافصاح عنها، أو التعبير عنها باللغة، فتركها للألوان والخطوط والحجر، ومنها ما تركه من دون أنْ ينجزه، إذ أدرك ستيتية أنَّ الشاعر هو اللاعب الأكثر مكراً، وأنَّ قدرته في أنْ يمارسَ وظيفة "الخيميائي" لا تقل شأناً عن وظيفة الشاعر والدبلوماسي والمؤرخ والرسام، والتي تجعله أكثر تمثيلاً للحياة، وأفصح تعبيراً عن قوتها، وعن خطورة علاقته بالتاريخ، لا سيما تاريخ الكتابة التي تجاوزت زمنها، أو أثارت زوبعة في زمنها، مثلما هو حال بن عربي والحلاج، وأظن أنَّ هذا ما جعله يكتب كتابه "حملة النار" عام 1972، حيث استعادة اسطورة برومثيوس بروحه الشرقية، وبطاقته السحرية التي تجعل من صورة "سارق المعرفة" أنموذجاً متعالياً لصورة كاشف السر كما يسميه العرفانيون، والذي جعل منه ستيتية يحمل صفة "سارق الكلمات" انطلاقاً من فكرة مالارميه بأنَّ الشعر هو الكلمات..
لا تجذب الصورة ستيتية للحديث عن ثبات الأفكار والوجوه، ولا للوقوف عند الزمن الميت، ولا عند الغموض الذي يجرّه الى فضاء تلك الافكار، والى حسيتها الملتبسة بالشهوة والشغف، بقدر ما تجعله يُخضع الفكرة والزمن الى ما يشبه الاستغراق الصوفي، حيث يختلط ذلك الحسي بالعرفاني، وحيث تبدو اللغة في نسقها الشعري مجالاً لتوليد استشعارات نفسية، يتجاوز الشاعر فيها ما هو تاريخي الى ما هو إنساني، وما هو عمومي الى ما هو ذاتي، إذ تساكنه الرؤيا بالحدس والكشف عبر شفرات اللون والاستعارة،
والحركة..
صلاح ستيتية- يُفكّر بالعربية- رغم لغة كتابته الفرنسية، وهذا ما جعل مترجميه الكُثر ينحازون الى سرّ ذلك التفكير المُشبع بالصوفية والسحر والبحث عن معنى الوجود، بوصف القصيدة جزءاً من حريته في البحث عن ذلك المعنى، وجزءاً من استغراقاته الحسية والتأملية، حيث تحضر الأنا التي تحدس وتفكّر بوصفها آخراً، وحيث تكون القصيدة تواصلاً في لعبة الكشف، وهو ما قاله ستيتية: "أعتقد أننا لا نستطيع أنْ نكشف أنفسنا إلّا عبر الآخر. الآخر كشفي وأنا
كشفه".
لعبة الكشف الفائقة في الشعر، لا يمكن أنْ تكون إلّا عبر الترحال في الزمن وفي اللغة، على مستوى تقويض المكان المركزي القديم، أو الطارئ، أو المعادي، أو على مستوى إبقاء الشاعر تحت نوبة دائمة من التحفيز، لتجاوز عقدة الهيمنة، ولاعطاء الكتابة بعدا بنائيا موسوما بالجمال، ودافعا الى الانغمار في فعل اللذة والجمال بوصفهما غير بعيدين عن الكشف والتمثيل، وهو ما قاله أدونيس في مقدمته لترجمة كتاب ستيتية "الوجود الدمية/ دار الآداب/ بيروت 1983: "شعره يصدر عن حدس يرى أن اللغة بدَئية، كأنما هي قبل الأشياء، أعني أنها لا تعمل وإنما
تسمي.
هكذا نصفه بأنه شعر ـ هندسة: شكل جميل بذاته ولذاته. والقصيدة هنا بنية - نسق. إنها العلم بالجمال، إنها علم
الجمال".