الاحتجاج على الحكومة حق من حقوق المواطن في معارضته ومناهضته لإجراءاتها في الضبط او التشريع او التطبيقات القانونية وغير القانونية، يتصاعد او يخفت تبعا لمقدرتها في تحقيق افضل المكتسبات لشعوبها. هذه بدهية سياسية واجتماعية في الحياة، او في علاقة الحاكم بمن يحكمه.. لكن ذلك الاحتجاج النبيل في ظاهره، يمكن ان يتحول بقدرة قادر الى ظاهرة سلبية لا تفسد الحقوق الدستورية التي شرّعت له سبل تحققه على ارض الواقع فحسب، انما بمقدور ذلك ان يؤسس لظواهر اقل ما يقال عنها انها سيئة ولا تخدم سوى طبقة سطحية وعدائية متخلفة من المجتمع، تلك الطبقة التي تتربص بمقدرات الدولة وشعوبها فتنقض على تلك المقدرات في حالات الطوارئ وغياب اجهزة الدولة..
هذه القراءة لا تريد ان تنهال على صيغ الاحتجاج المختلفة، ولا تريد ان تصادر الحقوق التي تنتصر للمغلوبين في الحياة على الاطلاق، انها تريد ان تقول بأهمية الفرز الذي يفرّق بين احتجاجين، يقف فيه الاول بصورة نبيلة وصادقة وعفوية، ويظهر فيه الاخر بطريقة بربرية وهمجية لا تهتم كثيرا في نتائج احتجاجها ولا صورته في نهاية المطاف.. الصورتان اللتان يقبع فيهما الاحتجاج تخضعان بالضرورة الى تحليل العارف والمتتبع لما تؤول اليه الحياة السياسية والاجتماعية بعد الانتهاء من فورة الانفعال
والتظاهر..
وبنظرة موضوعية وحيادية، فان اميركا وهي بلد كبير في انتاجه الصناعي وواقعه الصحي وتقنيات الحياة المتوفرة فيه، كان المتابعون في العالم يتوقعون تفاعلا من حكومتها مع الاحتجاجات بطريقة مختلفة، لا تشبه الطريقة التي تنعكس اليوم في وسائل الاعلام.. وسيلاحظ المتتبع لهذا الامر ان الانفعال والهستيريا التي صاحبت احتجاجاتها، جوبهت من قبل الحكومة بانفعال وهستيريا لا تقل في ايقاعها عن الاحتجاج الشعبي على مقتل "جورج فلويد" في حادثة اقل ما يقال عنها انها مشهد من مشاهد العنصرية البغيضة التي تظهر في اكثر من منطقة في بقاع العالم، وهي بلا شك من رواسب العرقية والشوفينية التي تلاشت في بلدان كثيرة – او في الاقل لم تعد موضوعة ساخنة في ادبياتها - يعيد مشهد مقتل الاميركي جورج فلويد اليوم واحدة من الصفحات التاريخية التي ارعبت العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا واسيا. هذا المشهد المقزز اعاد للأذهان الطريقة الهزيلة لتماسك الديمقراطية في البلدان التي تدعيها وتروج لها بصورة دعائية واسعة.
وبالتالي فان دلالات الاحتجاج الاميركية اليوم ستتلخص في اهتراء الوجدان الشعبي في اكثر اماكن العالم تحضرا، ازاء موضوعة السود والبيض والملونين بشكل عام، وكأنها ردة من ردات تقهقر النزعة المدينية التي اشاعت في العالم نوعا من الطمأنينة والسلام والعيش الطبيعي. فضلا عن دلالة ازدواجية المعايير التي تتحكم بسياسات الدول الكبرى امام التحديات الشعبية والجماهيرية التي ينتجها الحراك الحر على الدوام.