ضحى كريم ثابت
تستمد الثقافة العراقية الراهنة نسغ ديموتها من جذور راسخة في التاريخ؛ لذلك ظلت نابضة بالحيوية على الرغم من شتى الظروف التي احتدمت من حولها.
إذ شهدت ثقافة الحاضر العراقي، وقائع من شأنها الإطاحة بجبال ذات صخور صلدة، لكن المثقف الرافديني الأصيل ابدى تماسكا متواصلاً من خلال منجزات فائقة.. علما وأدبا وفنا.
ذلك لأن الإنسان العراقي أقوى من قدره، ماضياً في التطلع الى فضاءات لا نهائية؛ تحثه نحوها هواجس منحته تماسكا حضاريا متواصلا عبر الاجيال.
وعندما أقول "هواجس" فأنا أعني ترجمة الرغبة الى فعل منهجي قائم على العمل الميداني بمسؤولية واعية.
فالفنون والاداب والعلوم لم تنقطع.. متواترة عبر مراحل القوة والضعف، في الدولة والمجتمع.. على حد سواء.. ماضيا وحاضرا، مع استعدادات تبشر بمستقبلٍ رياديٍ في حداثة الأدب والفن والعلم والاعلام.
في التسعينيات ومطلع الالفية الثانية إبان "العقوبات الاقتصادية" وما ترتب عليها من انهيار معيشي واحتقان سياسي وآفة كآبة معنوية عاشها العراقيون.. أفراداً ومجتمعاً، انتهت بانهيار السلطة في 9 نيسان 2003، تبعها إرهاب وفساد وأزمات اقتصادية: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ" البقرة 155، بالرغم من ذلك تخطى مبدعو العراق هذا الجرد المريع من المحبطات.. لم يعقهم، بل ظلت الاحلام تتجلى في لوحات، والدهشة تسكب في مسرحيات، والبهجة تنغم في معزوفات، والحب يتدفق من أغانٍ.
أما براءات الاختراع فيتقدمها العراق.. نوعا وعددا، في العالم كله، بحسب إحصاءات اتحاد الجامعات العالمي، التي تصدر سنويا في جداول إحصائية مشفوعة بتقييم أكاديمي.
وكل هذا يتم من دون أن تنفصم عرى الانتماء، التي تشد النخبة المثقفة الى مجتمعها؛ ربما لأن معظم العقليات الجمالية والمعرفية في العراق من أصول فلاحية وعمالية.. يندر بينهم ارستقراطيو الأصل.. بل حتى هؤلاء اندغموا بأبناء الفلاحين والعمال في زمالة عمل وصداقة اجتماعية تداعت الى مصاهرات ذاب فيها البسيط مع الرفيع.. تساويا.
وهذا لا يعني أن أستاذ الجامعة او الفنان او الاديب والاعلامي، نزل من برج اعتداده بنفسه، إنما تواضع لله فارتفع المجتمع كله.
لذلك تعد البنية الاجتماعية المتماسكة، ارضا خصبة غرست في أديم ثراها بذور الحضارة؛ فأورقت مثمرةً منجزاتٍ في العلم والجمال.. أرض الرافدين حافظت على الأحلام والبحوث من أن تنثلم امام تدفق صخور الأحداث البركانية التي انصهرت على رأس الفرد واكتسحت المجتمع، من دون أن تترك أثرا بالقدر المتوقع من سوئها؛ فقد عاش العراقيون أحداثا.. على مر تاريخهم "لو صبت على الايام صرن لياليا"، لكنهم واصلوا حصد الجوائز العالمية ونيل الشهادات العليا وإنجاز الأعمال الفنية والادبية، كأن العراق شجرة وعي وارفة الظلال "أصلها ثابت وفرعها في السماء"، إيمانا بصلابة الماضي ومرونة الحاضر ورغد المستقبل.. ريح وريحان وطيب مقام.