أ.د عامر حسن فياض
أما بالنسبة لحوار الثقافات وتشكل ثقافة عالمية، فالملاحظ ان لكل جماعة ثقافية ولكل ثقافة فكرة محورية، ففي الحضارة والجماعة المصرية القديمة، يتمثل محور الثقافة بـ(فكرة الخلود)، ويتمثل محور الثقافة في حضارة بلاد ما بين النهرين بـ(فكرة الاسطورة الكونية)، وعند الاغريق القدماء كان المحور القانون، وفي الصين والهند القديمتين كان المحور يتمثل بـ(فكرة الانسجام مع الطبيعة)، وعند المسلمين تمثل بـ(فكرة النص)، بينما تمثل المحور في الغرب الحديث بـ (فكرة العقل). إنَّ ثقافات عالمنا المعاصر، وكما هو الامر في ثقافات العوالم السابقة، قد شهدت التجاور والتداخل وفق اسلوبين هما: اسلوب الغلبة العسكرية من الغالب الى المغلوب، واسلوب السريان الحضاري من المغلوب الى الغالب، والامر في الحالتين لا يعني ان هذا التجاور وذلك التداخل قد ادى فعلاً الى مسخ الواحد للآخر، او اكتساح ثقافة الغالب لثقافة المغلوب وبالعكس، إذ تبقى الثقافات متجاورة ومتداخلة كما يؤشر التاريخ ويؤكد الواقع، لكنها قد لا تكون كذلك من حيث السياسة والايديولوجيا، فقد تتصادم، وهنا يرى (صموئيل هنتجتون) ان تصادم الحضارات هو خليفة الحرب الباردة وفقا لشعار (الغرب والبقية) The west and the rest، وفي السياق ذاته ، وبالنتيجة، يصل (فرانسيس فوكوياما) في كتابه الى تأكيد سيادة الغرب المعاصر فكرا وسلوكا على العالم ليتمثل بالليبرالية، بينما تؤكد الحقيقة في التاريخ وعلى ارض الواقع ان حوار الثقافات في عالمنا المعاصر، هو حوار مستمر ومتواصل ضمن سياقات تؤدي الى تشكيل ثقافة عالمية سريعة الانتشار وواضحة التأثير، هي ثقافة التكنولوجيا . ويجعلنا ذلك نتذكر حقيقة ان تداخل الثقافات لابد من ان يخلق نوعا من الصراع بين الجماعات المختلفة بسبب مسألة الهوية، ولكن من دون ان يعني هذا سرمدية الصراع، لان ما نجده ونعيشه من صراعات راهنة تحركها دوافع سياسية وايديولوجية، ليست كامنة في طبيعة البشر ولا في طبيعة ثقافاتهم المتنوعة التي لا تعرف سوى علاقة التجاور والتداخل.
أما بصدد حرب المعلومات وتحولات الاقتصاد فإن النمط المعاصر لوظيفة الجاسوسية وصراع المصالح وتنافس السياسات، هو نمط جاسوسية المعلومات وجاسوسية الشركات الخاصة وندرة او وفرة المعلومات ، فالذي يمتلك المعلومة في عالمنا المعاصر وفي كل مكان وزمان، يكون سيداً سياسياً واقتصادياً وكذلك عسكرياً، لان المعلومة هي الطريق الى الثروة، ومن يسيطر على الثروة يسيطر على كل شيء بما في ذلك السلطة السياسية، لان من يمتلك المعلومة قادر ايضا على ان يشكل العقول، ومن ثم يحدد السلوك، ومن يفعل ذلك يصبح صاحب القوة والسلطة والسلطان. اذا ما كان عالم الاجتماع الالماني (ماكس فيبر) قد تحدث في السابق عن ثلاثة مصادر لشرعية السلطة، هي (التقاليد – الكاريزما – البيروقراطية)، وتحدث (كارل ماركس) عن مصدر وحيد هو (الملكية الخاصة)، وتحدث علماء السياسة عن مصدري (القوة والايديولوجيا) او غيرهما من المصادر ، فان متغيرات عصرنا الراهن افرزت مصدرا هو مصدر (المعرفة او المعلوماتية)، وهذا ما سيجعل المنافسات الحالية والقادمة والحروب المقبلة ليست منافسات اقتصادية ولا حروبا عسكرية بالمعنى التقليدي، بقدر ما هي منافسات ثقافية وحروب معلوماتية من حيث الانتاج والتشكيل، وهي منافسات وحروب ليس بين دول فقط، بل بين مؤسسات اقتصادية عملاقة لا تُعرف لها حدود ولا مراكز (شركات عديمة الجنسية)، مقابل الشركات متعددة الجنسية السائدة قبل الثورة المعلوماتية المعاصرة.
ويعني كل ما تقدم تعرض مفاهيمنا المعاشة لثورة عامة وشاملة، فقد كانت تلك المفاهيم تخضع لطبيعة السلطة السياسية وشرعيتها قاصرة على الحق الالهي ثم على القوة ثم على العقد الاجتماعي، لتتحول الى شرعية امتلاك وانتاج المعلومة. واذا كان مفهوم (الامن) يعني تقليديا امن الدولة والمجتمع على اسس عسكرية او بوليسية، فإن امن اليوم يتوافر بامتلاك المعرفة المنفصلة عن الاشخاص والاشياء والظواهر، لضمان امن الدولة والمجتمع واشباع الحاجات والتعامل السليم مع الداخل والخارج . اما مفهوم (حقوق الانسان) فقد تطور عبر ضرورة تاريخية على شكل اجيال، من مرحلة اللاحقوق الى الحقوق الطبيعية المقتصرة على شعوب وبلدان دون اخرى، الى الحقوق الشاملة، وصولا الى الامم المتحدة واعلانها العالمي وملاحقه، ثم حقوق الانسان بالنهايات المفتوحة من فردية الى جماعية (حقوق افراد – حقوق جماعات – حق الاختلاف – حق التنمية – حق البيئة – حق الاتصال.. الخ)، وكذلك في مضمار التقسيمات المفاهيمية للارض والاقاليم السياسية، فقد عرفنا من قبل مفاهيم لتقسيم (شرق – غرب) و(شمال – جنوب) و(رأسمالي – اشتراكي) و(متخلف – متقدم) و(نام- متطور) و(صناعي – زراعي) و(مركز – اطراف).. الخ، بينما يقوم عالمنا المعاصر والمقبل على تقسيم جديد معياره المعلومة، ومن يمتلك صناعتها ويحتكر تقنيتها، انه تقسيم يقوم على معادلة (من يعلم – من لا يعلم) او (من يحتكر المعلومة – من يفتقر للمعلومة)، وسيكون من لا يعلم خاضعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وتابعا ومرتهنا بمصيره ومستقبله لمن يعلم، والتقسيم المقبل غير قائم على اسس ايديولوجية ولا سياسية ولا اقتصادية كمية، بل قائم على اسس معرفية أولاً وأخيراً.