الحرب القادمة ليست باردة تماماً

آراء 2020/06/10
...

علي حسن الفواز
اذا كانت  الحرب الباردة – بين السوفيت والاميركان- قد حملت توصيفات ايديولوجية وتسليحية  استمرت لأكثر من خمس واربعين  سنة، سقطت خلالها مجتمعات ودول، وسُرقت ثروات، وتوسعت أو ضاقت خنادق، فإن الحرب الباردة القادمة بين الصينيين والاميركان لن تكون بذات البرودة القديمة، ليس لتغير طبائع المجتمعات والدول، ولتجدد النظر الى مفاهيم الحرب والسلام والايديولوجيا والاقتصاد، بل للزيادة المفرطة في القوة، والخشية من  أن يتم التصرف بها خارج السياق، فضلا عن غياب واضح في أداء العقلانية السياسية، والتي كان يُجيد لعبتها الرؤساء السوفيت والرؤساء الاميركان القدامى..
اليوم يعيش العالم واقعا مختلفا، تسوده الشعبوية السياسية من جانب، وهيمنة السوق بمقاربتها العولمية من جانب آخر، فبوتين لا يشبه ستالين، ولا برجنيف، وترامب لا يشبه جون كندي ولا ريتشارد نيكسون، مثلما هو الرئيس الصيني شي جين بينغ لا يشبه ماو تسي تونغ، وحتى التطبيقات الرأسمالية والاشتراكية بنسختيها الروسية والصينية فقدت كثيرا من اقنعتها الايديولوجية والثقافية والاستهلاكية..
 الخطاب الوبائي لكوفيد 19 تحوّل من كونه مجالا صحيا الى مجال يختلط فيه السياسي والامني والتجاري، وهذا الخلط انعكس كثيرا على مواقف الدول، وعلى علاقاتها، وعلى ممارساتها وتوجهاتها، وربما  جعل الولايات المتحدة أكثر خشية على مستقبلها الرأسمالي، وعلى طبيعة قوتها المستقبلية، وهيمنتها التجارية الكبرى، حيث صنعت لها طوال نصف قرن مضى كثيرا من الحروب الدامية، والصراعات التي لم تعد ملفاتها سرية، ومنها حرب الخامس من حزيران عام 1967، حيث أخرجت منطقة الشرق الاوسط ودول" التحرر العربي" من خندق " السوفيت" وتركتهم يلعقون جراح هزيمة تاريخية مسّت رمزية البطولة والثورة والقومية ومعاداة الامبريالية.
الحرب القادمة ليست باردة
يمكن النظر لتوصيف الحرب القادمة خارج التوصيف السياسي، فالصين تمثل القوة الاقتصادية القادمة، وان تأثيرها في صورة الامبريالية الاميركية سيكون خطيرا، إذ إنّ فقدان الاسواق الصينية سيجعل اميركا تواجه خسارات مرعبة، لا قدرة لمفهوم السوق الحر أن يتحملها، فضلا عن أن الصين القوية تملك قاعدة ديموغرافية، وحربية وانتاجية لها قابلية مواجهة التحديات الاميركية، وان تحوّل السياق المقترح لـ" الحرب الباردة" الى مايشبه العاب " البلي ستيشن" للاطفال، فالصين لا تُعنى بحروب الفضاء ولا بالصواريخ العابرة للقارات، كما فعل السوفيت قديما، إنها معنية بصناعة الاسواق، وهي المنطقة الاثيرة للرأسمالية، وهذا مايجعل حساب التنافس يدور في منطقة واحدة، وعبر منطق تنافسي قد يربحه الصينيون..
كما أن مفهوم الحرب الباردة ذو طابع ثقافي، وهذا ما لا يتحمله الواقع المعاصر، فالصين دخلت عصر العولمة عبر عالم التقنيات، وصار عالم الهواوي منافسا للآي فون، وربما طاردا له، مثلما ان تقنيات الصين دخلت الى " سرائر" البيت الاميركي، وفرضت شروط لعبتها على السوق الاميركية ذاتها، حيث ملايين العاملين فيها، وحيث مليارات الدولارات تدخل الخزائن الاميركية سنويا، وهذا ما يجعل عملية فك الاشتباك صعبة، وكل عنجهيات الرئيس الاميركي ترامب لن تجدي نفعا في مواجهة تداعيات الواقع، وحتى التُهم الموجّهة للصين، والإدعاء بمسؤوليتها الكاملة عن انتاج  فيروس كورونا، لم تكن واقعية ولا علمية، بل زادت الرئيس الاميركي تخبطا في اتهام اطراف دولية أخرى، ومنها منظمة الصحة العالمية، حيث أقدم ترامب على انهاء علاقة الولايات المتحدة مع هذه المؤسسة الدولية، والتابعة للامم المتحدة، فضلا عن حربه العلنية ضد وسائل التواصل الاجتماعي، وآخرها مع " تويتر" التي كانت مُفضّلة عند الرئيس.. كلّ هذا  يجعل الحرب المحتملة غير باردة، وربما أشدّ سخونة من غيرها، إذ سيجد العالم نفسه أمام انهيارات كبرى، قد لا تتحملها الدول الغنية، فكيف بالدول الفقيرة، لاسيما وان وبائية جائحة كورونا قد كشفت حجم الرثاثة التي تعاني منها تلك الدول، وضعف قدرتها على مواجهة ظواهر مرعبة مثل الكساد، والبطالة والفشل الاقتصادي، أو التظاهرات العنيفة والتدهور الاجتماعي كما يحدث الآن في الولايات المتحدة.