علي لفتة سعيد
ينتقد الكثير الواقع العراقي بطريقة جلد الذات القاسية، ويعتقد بأنه الاصح في القول والتعبير عن الرأي، متناسيا انه يوجه انتقاده الى جهة أو تجمع أو مدن بعينها وينتقص من اهلها .
البعض يعد الجنوب دائما هو نقطة التراجع الحضاري أو ازدواجية الشخصية، وكذلك يعده مدمرا لحضارة المدن، لكون الجنوب في نظرهم عبارة عن ريف متصل.. وهذا الامر لم يأت اعتباطا أو وليد الصدفة الآنية، التي اضحت فيها عمليات الهجرة والنزوح تولد صراعات طبقية ومناطقية وطائفية ايضا، بل هو وليد العشرات من السنين التي لا نقول انها بدأت مع الاستعمار، بل لان الجنوب هو المحرك الاول للوطنية، وان اغلب الاحزاب تأسست هناك، واغلب الثورات تنطلق من هناك، حتى قيل ان اردت السيطرة على العراق فسيطر على الجنوب، وهذا ما رأيناه في الاحتلال الامريكي، إذ بدأ من الجنوب، وقبلها الاحتلال البريطاني.. وقد سلمت المحافظات الأخرى مفاتيح مدنها للمحتل، وحين أفلست من السلطة اعلنت المقاومة .
إن هذه النظرة الدونية التي تسيق اي حديث عن الحضارة والمدنية والتمدن، بعدّ الجنوب ريفيا، وكأن الريف سبة، برغم ان الجميع يتغزل ويتوسل بالأخلاق التي لا تغادر الريف، وما يحصل من تغيرات في الهجرة ليس لانه ابن الريف، مع التحفظ على هذه التسمية، ولكنها تأتي بتناسق مع ما يقال ويطرح، بل لأنه لا يقبل الرضوخ بركنه في الهامش، فابن المدينة يريده ان يكون تابعا على اعتبار انه الأثقف، وهو امر غير مرغوب فيه، لان العادات والتقاليد تتعارض، بل ان القبول بهذا النازح او المهاجر غير مرحب به على اعتبار ان ابن المدينة هو الاحق بكل المراكز، بما فيها الاقتصادية، ولا يقبل بالذي يأتي وينافسه على كل شيء، بل ان الانتقاص وصل الى حد اعتبار اللهجة هي لهجة تخلف مثيرة للاستهزاء، وثار الصراع بين (اللعد وعجل يابه والجا)، وهو امر ليس بجديد حتى على المختصين الذين يتناولون الشخصية العراقية، فيذهبون الى اهل الجنوب لتكون هناك مقارنة.. وقد بدأها علي الوردي، لانه كان ينظر الى ابن الجنوب على انه مثال على التراجع الحضاري، وبالتالي اطلق ازدواجية الشخصية على الفرد من هذه النظرة المتعالية، وهو بالحقيقة ليس ازدواجيا، بل لان المكان الذي جاء اليه لا يرغب بوجوده، لأنه يندرج ضمن ما يطلق عليه صراع البقاء، ولهذا فان الهجرات المتعددة هي اصلا غير مقتصرة على اهل الجنوب، وكأن عبد الكريم قاسم هو الذي جاء بهم ليوطّنهم في بغداد فتتحوّل بغداد بسبب هذه الحركة الى منطقة غير حضارية، متناسين ان نظرة واحدة على مناطق بغداد، سواء مدنها في وسطها وهي مناطق غير شعبية، وكذلك اطرافها، ستعطينا وقفة تأملية من أين جاء هؤلاء الى بغداد، ولكن لا أحد يشير أو يصنف او ينتقد، لان المال يتحكم والسلطة كذلك، مثلما تناسينا ان اغلب المؤثرين في الواقع السياسي والثقافي هم من الجنوب، ويمكن قراءة التاريخ جيدا، فسنجد ان الابداع جنوبي.. وهنا لا اقول افتخارا فقط، أو للتقليل من بقية المناطق، ولكن رداً على جلد الذات والطعن، لأن هناك منطقة فارغة بين ما يحمله المهاجر من ابداع، وما يخلو منه من جاء قبله، لأنه اصلا مهاجر قبله، فالمدن لا تولد وحدها بدون اناس يأتون إليها. مرة انتقد احد الاكاديميين المشهورين، الذين يصدّعون رؤوسنا بالوطنية، هذه الهجرة وعدها مثلبة على بغداد، فقلت له انظر الى اسمك الذي يحمل اسم مدينتك.. فربما تعد اهل الجنوب فقط بأنهم ريف. انها نظرة دونية وان كانت من علو.. فالثقافة هي احترام الانسان في عيشه وروحه وثقافته واخلاقه وماله، أما السلبيات فهي موجودة في اي مجتمع حتى لو اطلقنا عليه الاصلي.