سحر السرد ونبوءة الرؤى

ثقافة 2020/06/11
...

سلامة الصالحي
 

مضيت ستة ايام متواصلة بقراءة رواية لطفية الدليمي، (عشاق وفونغراف وأزمنة) الصادرة عن دار المدى بـ٥٨٦ صفحة ..وقد حصلت عليها بطريقة الاستنساخ، لأني بحثت عنها في المكتبات ويبدو انها نفدت ...قرأتها من العنوان حتى اخر السيرة..والاصدارات...وقررت ان استريح من شغف التواصل ولجة المتابعة لابطالها المثكولين واحزانهم وذكرياتهم، وتنبؤاتها التي تقولها على لسان ابطالها نهى الكتبخاني وجدها صبحي ووالدها جابر ... وبينهما تقع احزان ميادة الام ونادر الحبيب والخالة هناء .. وبنفشة الجدة التي تركت جينات الحب والعشق في سلالتها...عندما تقرأ ..للعارفة والرائية لطفية الدليمي...فعليك ان تكون بكامل تركيزك وانتباهتك...خوفا من أن تفلت شذرة أو لؤلؤة من العقد الذي تمده اليك لطفية وانت مسحور بضوئه..ان تتعمق ..وتتأمل... في ما يمر أمامك.. فهي تمنحك العمق والدلالة والمعنى ...وتسربك كأي طائر فضولي لاكتشاف سماوات مداها الجميل...هناك حدس ..ورؤى صادقة ...والروائي الذي لا يملك الحدس والنبوءة يصبح عاديا ...وحكاءً ناقلا...للحدث فقط...لطفية تصنع الذروة ...وتمنحك نبوءتها...المحذرة والمبشرة...تبدأها، أي الرواية، بقول صوفي لابن سينا...المستعد للشيء تكفيه أضعف اسبابه...وكأنها تقول لنا ...استعدوا لمصائركم..وتحملوا العيش ...بابسط الاشياء ...فأنتم سكنة الوطن الذي تناهبته الحروب والحصارات والطغاة والغزاة واللصوص الغرباء...انتبه...لابد من أن تكون زاهدا ...لتعيش الصدق ومعناه ...وعواقبه الجميلة...عليك ان تمتزج بهذا الكيان الغامض مما منحته الطبيعة من الثراء والحكايات والتاريخ والافكار والنزاعات...وطيوف الاكتشافات الاولى...كيان راكز ..ونقطة لصراعات كونية بدأت منذ الازل ولن تنتهي...فهو المحرك والباعث...والذي يضع حصاته دائما في الراكد من الاشياء...كيان صغير في عرف الجغرافيا...لكنها الجغرافيا التي تحرك التاريخ دائما...تلك التي تبدأ بنهرين عظيمين...ولا تنتهي بحكايات الانسان ...الغاضب الحزين الثائر الرافض المتمرد المتسائل الخاضع والصامت ..والذي إذا بدأ يثور وينزف، فلا احد يعرف متى تهدأ ثورته او يتوقف نزيفه...تحكي لطفية عن النساء ...اقدارهن الغامضة ..ومصائرهن التي ارتبطت دائما برجال تخطفهم الحروب والاغتيالات...والمنافي...تتركهن وحيدات يتآلفن مع المحن ...ويبدأن بتربية رجال جدد...ويحاولن ان يحمين هذه المصائر للصغار، بغنائهن الحزين وادعيتهن...وحدسهن...تقول العرافة والأم السومرية لطفية...بنساء زحل، روايتها التي امرضتني، والتي نتفت منها احد ابطالها حياة البابلي، لتخبرنا بمصيرها في عشاق وفونغراف وازمنة، كأنها تقول ..ان حكاية النساء العراقيات طويلة ولا تنتهي...وان كوكب زحل ...قد استقر وسيستقر طويلا في توجيه مسارات الحزن والخذلان على نساء هذا الوطن...نعم ...النساء مراجل الحروب ومناجم القلق ..ورحم النزاع الذي فرضته الاقدار والغزاة والطغاة.. تتركهن الحروب وحيدات مثل نساء ماكبث...تائهات في براري العنوسة والفقد والاحلام المستحيلة...حياة غامضة ملتبسة، ويوميات تنقضي بالترقب والاحزان والخوف.. ولأن لطفية العارفة... شجرة من جذر سومري... فانها في هذا المنجز تبشر بالشباب.. وقدرتهم الاسطورية على ازاحة المرارة ونفايات الجشع واللصوصية والسوء...انها تتنبأ بالتغيير...بالثورة ..وهكذا فالثورات هي الحركة السريعة للتاريخ، وان تعثرت او اصابها بعض الجروح.. لطفية تجيد لعبة الزمن...لا تلغي الحاضر وهي تستدرجك للماضي ...لكنها تخرج لك من جيبها كل  ملامح الاسلاف من زمن وشخوص واحداث ..فتقارن ..لتتركك بتوقع الاتي ...وتخبرنا بذات الوقت ان هذا الزمن المحايد اللامبالي ...هو ذاته...لكننا نحن المتحولون..انه كتلة واحدة يتنقل بين ارواحنا وارواح من سبقونا.. يعيد ذاته..شخوصه...احداثه..ليضعك معه بدوامته...ولكنك تمسك عصا التحكم...فامسكها ان شئت ...وغير مسار هديره العشوائي ...غير ثيابه...وابطل حروبه...ودلل نساءه...واستمتع بصغارك..انها الحكمة القديمة التي قالتها كاهنة كلكامش وهي تعلم...انكيدو وظيفة الحياة ونشوة الانثى...لطفية الرائية...المقشرة لظواهر الاشياء وهي تستدرجك للدخول معها الى لحاء الزمن والمكان والموجودات...تحرضك لكشف الاسرار ...والتساؤل والاستفهام...وتستفزك للنظر ...الى كمون الاشياء في بذور صغيرة ... تاخذك الى عوالمها الساحرة المضيئة المزدهرة بالمعرفة والرؤى...تمنحنا كونها الصغير المشفر...ولا تستكثر علينا مفاتيح الولوج...تذوق معها ثمر الاشجار ...وتشم عطر وردها وتستأنس بضوء قناديلها الخضراء ويسحرك لؤلؤها الملون.. تحرضك ..للاكتشاف..وترشدك لمعنى كبير ...ببذرة صغيرة..ستمنحك قناطير المعرفة ..وتربي فيك ملكة التأمل...ولا تنسَ وانت تخرج من مدينتها الفاضلة، انها اودعت في جيبك بضع سبائك من الضوء، ستغنيك في لحظات معتمة...لطفية الزاهدة ..العفيفة ..المكتفية بالقليل ...والحاصلة على اجنحة النور، وهي الجارة الابدية للشمس ...واخت النجوم...ستلبث في روحي طويلا ..وصاياها...سأطرق ابواب عزلتها ... وانتمي لقبيلتها التي تحرسها الفراشات...ويجوب في ازقتها الايائل والطيور.