منذ السؤال الفلسفي الأول، اشتغل الفكر الفلسفي على وضع تقعيدات سيسيوثقافية تنظم التفكير الإنساني، وقد تنوعت التقعيدات الفلسفية بين المثل العليا والعقلانية والعملانية وما إلى ذلك. إن هذا الخطاب الفلسفي المنتج سعى إلى صناعة أنموذج متفرد في عليائه، وقد تنوع هذا الأنموذج (اللوغوس) بين الخطاب والعقل والإله بكل تشكلاته، ومن خلال هذا التنوع نشأت السرديات الكبرى، وهي سرديات تحاول تعليب الإنسان ضمن أفهوم تسعى إليه، يتجلى بوساطة الخطابات التي تتمركز حول ذاتها، ولا تسمح بالاختلاف والتعددية بوصفها حقيقة ثابتة تاريخيا، مثل الأديان والأعراق والمكتشف وغيرها.
تعد السلطات بكل تنوعاتها أحد تجليات السرديات الكبرى التي تشترط وصايا معينة لترويض الذات الإنسانية، وسلطة الكهنوت من التمثلات المائزة التي تلقي بظلالها على الآخر المختلف محاولة ترويضه، سواء كان عن طريق الاستلاب الفكري أو التوجيه القهري، على وفق طروحات تأويلية قد تشهد انزياحا كبيرا عن مرجعياتها الدينية، مما يولد نكوصا مفاهيميا في بنية السرديات الكبرى، فهي سردية مشوهة تسعى لتحقيق مآلاتها بشتى الوسائل.
مع بزوغ طروحات ما بعد الحداثة، برزت فلسفات تحاول تفكيك المركزيات، من اجل تقويض السرديات الكبرى التي علبت الجسد الإنساني المهمش، وكانت المقولات الفلسفية لـ(نيتشه) و(فوكو) و( دريدا) من مهاداتها الأولى، ثم جاءت طروحات الفيلسوف الفرنسي (ليوتار) بضرورة تعطيل الإيمان بتلك السرديات الكبرى بوساطة فضح بنيتها الشمولية.
ولو تابعنا مجموعة (تبغدد الحنظل) للشاعر صلاح السيلاوي الصادرة مؤخرا عن دار تأويل السويدية للنشر والترجمة، لوجدنا اشتغالها التقويضي للسلطة الكهنوتية، بوصفها سردية كبرى منذ عتبتها الأولى التي حملت لوحة تشكيلية تجريدية رسمت فيها وجوه متنوعة، فقد جاءت هذه الوجوه بأشكال وألوان مختلفة، في إحالة دلالية على وحدة النوع الإنساني من دون أي اعتبار للعرق أو الجنس، في حين جاءت مفردتا العنوان (تبغدد) و(الحنظل) على طرفي نقيض، فالشاعر يحاول أن يفكك مرارة الحنظل بطراوة البغددة، بينما حمل الإهداء التناقضات ذاتها، فهو يهدي مجموعته إلى بغداد التي شهدت حياتها وموتها، لندرك أخيرا أن الشاعر يرسم لنا مدينته الجميلة الخالية من دنس الكهنوت المميت، أما العناوين الفرعية فقد كانت تشي بسرديات كبرى متنوعة، مثل (أصنام الطاغية) و(عن أيام التماثيل) و(أجنحة الغربان) و(آية الرئيس)، حاول تقويضها في المتن الداخلي للنصوص.
تنوعت السرديات الصغرى التي وظفها الشاعر في تقويض السلطات التي حاقت ببغداد وجعلتها مشهدا من ركام، ولو تابعنا الصفحة الثامنة، وفي قصيدة (وداع الحنظل) نقرأ:
كانت المدرسةُ قريبة من الجامعِ/ وكنت دوماً أرى المنارة قلماً/ لماذا صار جميعنا يراها سيفاً
فالشاعر هنا وبحسب مروياته الدينية التي ورثها بوساطة حمولاته القبلية، سواء كانت من الأسرة أو المدرسة، يرى التعالق الجمالي والمعرفي بين المنارة التي تشي بالإسلام، والقلم الذي ورد في الأدبيات الإسلامية كما في سورة القلم: (ن والقلم وما يسطرون)، فقد أقسم الله (عز وجل) بالقلم الذي يعد مداد المعرفة والنور، وهذا التعالق بين المنارة والقلم شهد صيرورة مشوهة نحو الموت والجهل بعد أن تحول سيفا، وهذا التحول مرده الأجساد التي قتلت غيلة وغدرا بسبب التأويل الديني المريع والبعيد عن أصالة الخطاب الإنساني للقرآن، لذا عرى الشاعر هذه السرديات الزائفة التي صنعتها الرغبات الإنسانية الهوجاء، ثم تستمر تساؤلات الشاعر التي تعري هذه السرديات الكبرى، إلى أن يختمها بسؤاله الوجودي المتسيد على بنية المشهد؛ حينما يقول في الصفحة الحادية عشرة:
لماذا تطردُ المدينةُ أبناءها/ ثم توقظُ قلوبهم برثائها
لم ينفك الشاعر عن كشف زيف الكهنوت في نصه الثاني (أصنام الطاغية)، مستخدما الكثافة المشهدية والانزياح الدلالي، في بنية جمالية تسعى لها قصيدة النثر الحديثة، حينما يقول في الصفحة الثالثة عشرة:
كهنةُ العتمةِ/ جروا الحزنَ العراقي من لحيته/ وضعوا في يمينهِ حدود البلادِ/ وفي يسارهِ مقياسَ رختر
إن بنية هذا المقتطع الشعري جاءت على شكل خطاب يصف كهنة المعبد الذين أراقوا هيبة العراق المحزون بسبب نزقهم الوحشي، لكن الشاعر أنسن الحزن العراقي، مسقطا عليه هيبة العبد الصالح صاحب الشيبة المباركة المفجوعة بالآلاف من الشهداء الراحلين، وهي اشتغالة تركت أثرها الجمالي في بنية النص، ثم يستمر الشاعر في تشكيل الأنساق المضمرة التي يستطيع القارئ النموذجي كشف حيلها المراوغة، حينما يصف الكهنة بأنهم وضعوا حدود العراق في يمينه، وهي إحالة تشي بمقدار التدخل الخارجي الذي يفتت وجوده، مما جعله يبحث عن خلاصه الوجودي، قبالة ذلك وضعوا في شماله مقياس (رختر)، في إحالة دلالية تنبئ بكمية الاهتزازات التي تعرض لها، فالشاعر حينما يكشف حيل السردية الكهنوتية، يعمد إلى جماليات التكثيف والإيجاز والبلاغة والانزياح، من اجل تشكيل خطاب لسردياته الصغرى المناوئة للسرديات الكبرى.
بعد أن شهدت نصوص المجموعة الأولى كشف ألاعيب الكهنوت بوصفه سلطة قارة، جعلت من الإنسان المعاصر وقودا لشهواتها، شهد النص الموسوم (ليسوا سوى أجنحة) تحولا بنيويا كبيرا، مبنى ومعنى، فقد رسم لنا التشكيل الحياتي لرجال سردياته الذين يزرعون الجمال على الرغم من انكساراتهم، فقد أزاح الشاعر الكهنة من تسيد المشهد بعد أن خلخل المهمشين مركزيتهم، لذا تراه يقول في الصفحتين التاسعة عشرة والعشرين:
فلاحو الحزن ينثرونَ بذورَه/ في قلوبِ المزارعِ/ يعلقونَ أغصانَه على أفواهِ المعابد
يحاول فلاحو الحزن أن يعيدوا للمعابد رونقها، على الرغم من تلطخ جدرانها بدماء الأبرياء، فحتى لو كانت أغصان حزن، إلاّ أنها تؤثث لحياة نقية صافية خالية من دخان الحروب ومجنزرات الموت، صلاح السيلاوي شاعر عارف، خبر متون الفلسفة ومعمارية الشعر، لذا جاءت مجموعته (تبغدد الحنظل) في بنية شكلية فلسفية لا تشبه إلاّ ذاتها.