نعيش هذه الايام ذكريات ما حدث في عام ٢٠١٤، وما آلت اليه احداث ذلك العام، من تداعيات على المشهدين المحلي والدولي، والتي يذهب الكثيرون، إلى انها كانت أحداثًا سودا، لم تخلف سوى الخراب والدمار للبشر والحجر.. ولكن على الرغم من كل ما حدث، وما تلاه، فإننا نستبطن في تلك الأحداث، الكثير من الإشراقات والمواقف العراقية، التي اتسمت بالبطولة، وجسدت معاني الإنسانية، والتلاحم الحقيقي، بين ابناء الشعب،
اذ لم تفلح كل الخطط الخبيثة في النيل من وحدة وصبر وشجاعة وصمود العراقيين، بجميع ألوانهم وأطيافهم، ولعل من نافلة القول ان نشير هنا إلى المآثر البطولية للحشد الشعبي، الذي تشكل بعد الفتوى التاريخية للمرجعية الدينية العليا، فقد أعاد الأمور إلى نصابها، بعد ان فلتت او كادت تفلت من عقالها، مع اقتراب عصابات داعش الإرهابية من أسوار بغداد، بينما حفل المشهد الإنساني العراقي، بمواقف، يعجز الواصفون عن وصفها، ولو تصدى لها الكتاب والمخرجون، لخرجوا بأعمال، ينافسون بها ما تنتجه هوليود الامريكية، وبوليود الهندية، فضلا عن الدراما العربية..ولعل ما زرعه العراقيون، في ذلك العام، قد بدؤوا، يحصدون نتائجه خيرا وفيرا، سيُغْرق الإنسانية جمعاء، ذلك أن مَن يزرع خيرا، لا يحصد إلا خيرا..وليس بالضرورة، ان يكون خير صاحب الخير عائدا له وحده، انما يعم وينتشر.. وحقيقة القول ان الذي جعلني اعود بالذاكرة إلى ما جرى في عام ٢٠١٤، بحلوه ومره، هو انني شاهدت مقطع فيديو تداولته الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر فيه فتاة عراقية، من محافظة ميسان، طَلقَةَ المُحيّا، وسط أسرتها، وهي تقدم آيات الشكر والامتنان والعرفان، لشاب انباري، كان تبرّع بإحدى كليتيه، لهذه الفتاة، وانقذ حياتها بعد ان كانت مهدده بالموت.. هذا المشهد المليء بالإنسانية بجوهرها العراقي النادر، أعادني إلى استذكار حادث من بين الأحداث الكثيرة التي حفل بها عام ٢٠١٤ ، فبين ثنايا أيام المحنة التي تجسدت في جسر “بزيبز” الذي سطع صيته يوم ذاك، اتذكر قصة سيدة انبارية، تقطعت بها السبل، بعد استشهاد زوجها، وتهجيرها قسرا، مع مَن هُجروا، ولم يكن امامهم من سبيل سوى عبور جسر بزيبز، ليصلوا الى بر الامان، وفي حينها، كان العابرون يحتاجون الى من يكفلهم، لكي تسمح لهم القوات الامنية بالمرور.
فوقفت تلك السيدة متحيرة، لا مال لديها، ولا معين ولا كفيل، فراحت تبحث في هاتف زوجها الذي احتفظت به علّها تجد رقما تتصل به لانقاذها هي واطفالها مما هي فيه من بؤس وشقاء، فتوقفت عند احد الارقام، وقد سجله زوجها باسم (فلان ناصرية) - للاسف لم اعد اتذكر الاسم، بعد مرور ست سنوات على الحادثة -.. حاولت السيدة ان تتصل بابن الناصرية، ولكن رصيدها لم يسعفها، فاستعانت باحد الرجال من ابناء مدينتها، لكي يساعدها على تأمين الاتصال، فلم يقصّر معها..رن الهاتف لدى الطرف الاخر، الذي لم يتأخر في الاجابة، قالت له انا زوجة فلان، وانا الان في محنة، واحتاج لعونتك.. أبشري، هكذا أجابها، ولم يتأخر ابن الناصرية، الذي كان يرزح تحت براثن الفقر، فذهب الى احد اقربائه واقترض منه مبلغا من المال، فأرسل رصيدا لهاتف السيدة كي تتمكن من التواصل معه.. وتوجه من فوره الى بغداد ثم الى بزيبز، وتعهد امام القوات الامنية، بكفالة هذه السيدة واطفالها، ليأخذها معه الى الناصرية، وهناك، راح ابناء مدينته، يسابق احدهم الاخر ليحظى كل واحد منهم باستضافة بنت الانبار.. وبعد ذلك هيؤوا لها بيتا خاصا، مع توفير كل ما تحتاج اليه من مستلزمات
الحياة.
واتذكر حينها أيضا، ذهابي الى الناصرية انا والصديق جعفر الونان، والتقينا ذلك الرجل، ابن هذه المدينة التي تفيض كرما وشجاعة، كما التقينا السيدة بنت الانبار، ووقفنا على تفاصيل القصة، وقرأنا عمق التلاحم الكبير بين العراقيين، في عيون ابناء ذي قار، مع اهلهم من ابناء
الانبار.
وعلمت في ما بعد ان بنت الانبار، آثرت البقاء في ذي قار، لتبقى تمثل شريانا عراقيا، يربط بين جانبي القلب النابض عشقا للعراق.