فنانون يستشرفون شكل الفن ما بعد كورونا

ثقافة 2020/06/14
...

البصرة/ صفاء ذياب
 
التوجّه الذي يلمسه العالم بعد أي تحوّل كبير على مستوى الاقتصاد أو السياسة أو الحياة بشكل عام، يشكل تحولا آخر في الفنون والآداب التي لا يمكن أن تنمو وتتطور بمعزل عما يجري في العالم. 
فإذا عُدنا قليلاً، نلاحظ أن أهم المدارس الفنية في بدايات القرن العشرين ومنتصفه، كانت ردّ فعلٍ على الحروب والتغيرات التي طرأت في العالم، ابتداءً من الدادائية، ومروراً بالتكعيبية، وليس انتهاءً بالسريالية، وغيرها من المدارس الفنية.. الأمر نفسه ينطبق على المسرح والفنون الأخرى.
وعلى الرغم من رسوخ تلك المدى منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، غير ان ما يحدث الآن وتغيّر حياة البشرية بسبب جائحة كورونا، قد ينتج فنوناً أخرى من جهة، وقد نشهد طرائق جديدة لتقديم هذه الفنون من جهة أخرى.. فكيف نقرأ ملامح فن ما بعد كورونا؟ وما الذي نستشرفه في خصائصه؟
 
أعمال مؤقّتة
الفنان والكاتب يحيى الشيخ يقول إن جائحة كورونا عزلت الناس وقضت على الآلاف، خلال أربعة شهور، هذه حقائقها الأشد وضوحاً، والجائحة باتجاه الانحسار والتراجع، ولهذا عادت أغلب الشعوب إلى حياتها العملية والاجتماعية بالتدريج. المرض القاتل هذا لا يختلف عن أمراض سابقة خطيرة حصدت الآلاف كـ(الإيدز، سارس، إيبولا...) تعايش الناس معها بدرجات متفاوتة، أبرزها الحذر واتباع طرق الوقاية الآمنة، ولم يأتِ وراءها أي فن يمكنه أن يحدّد ملامح حركة أو نزعة او أسلوب... إنه ليس واقعة تاريخية مثل الحرب العالمية، ولا هو ثورة جذرية قلبت المعادلات الاجتماعية والمفاهيم والأنظمة السياسة... إنه مرض لا غير، وإذا كان لأحدهم إنتاج عمل فني مأساوي أو غيره موضوعه الجائحة، فهذا يظل عملاً محدوداً، يذكّرنا برواية "الطاعون" لكامو التي اندرجت ضمن سلسلة الأعمال المتميزة، لكنّها لم تحدّد خطّاً فاصلاً بين مرحلتين ويمكن القول عنه: ما قبل الطاعون وما بعده.
ويؤكّد الشيخ، أن ما يشاع عن فن أو أدب (كوروني) النزعة يستند إلى بضع حالات أو أعمال انفعالية، لا يمكنه أن يشق طريقه بصيغة مرحلة لها خصائصها الجمالية، وسيظل عملاً مؤقتاً عابراً وعاجزاً عن إشاعة تيار جديد. التوقعات لا تنتج فناً، بل الوقائع التي تغيّر التاريخ كما تفعل الأفكار الجديدة، الثورات عميقة الأثر، الحروب المدمّرة التي تهدم المجتمعات وتأتي بغيرها.أما على الصعيد الشخصي، فـ"هذه المرّة الأولى التي أتوقف فيها عند هذا الامر، فهو لا يعنيني غير مرض قاتل مثل أي مرض يعيش معنا في الطبيعة".
 
دهشة الصدمة
الفنان محمود فهمي يشير إلى أن الفيروس الذي اجتاح العالم اليوم أذهل الأرض وشعوبها بقدرته في السيطرة على مشهد حياتنا وتجميدها، وكانت إصابته إصابة في الصميم فَشَلَّ الحياة في الكثير من مرافقها... والفن هو أحد جوانب الحياة الإبداعية الذي اصابته هذه الجائحة بالشلل والانكفاء في داخل الورش، فليس باستطاعة الفنان اليوم إقامة معرض أو الاشتراك بمعرض وأن يمارس نشاطه الفني كالمعتاد كما في السابق. أما عن تجربة فهمي الشخصية، فهو يمارس حياته بالحجر الوقائي الطوعي، ولحسن حظي أن "مرسمي في داخل بيتي ولا يتطلّب مني الخروج من البيت. ومن البداية تملكني الحماس للرسم بساعات أكثر لعدم وجود حل آخر أو أيّة طريقة أخرى للترفيه، فصار المرسم هو الترفيه والعمل والإنتاج في آن واحد".
ومن إيجابيات هذا الحجر أيضاً عند فهمي، ان هناك كتباً لم يقرأها منذ أن اقتناها وتراكمت في مكتبته و"كل مرة أقول بأنني سأترك الرسم لفترة وأتفرّغ للقراءة، غير أن الموضوع يتأجل، إذ انهمكت في الأربع سنوات الأخيرة بالرسم وقلّلت من القراءة المعتاد عليها، فضلاً عن اقتناء الكتب المستمر، حتى تكدّست، لكنني أعترف بأني مقل بالقراءة في هذه السنوات الأخيرة، غير ان الآن سنحت لي الفرصة بقراءة هذه الكتب والتمتع بها بكل شغف، لا سيّما كتب التاريخ، فتفرغت لقراءة تاريخ الحضارات، مثل كتاب عن دولة البطالمة وتاريخ الإغريق في مصر وملوكها في تلك الحقبة.
ويعتقد فهمي أن السلوكيات الاجتماعية قبل كورونا قد تغيّرت عمّا بعدها في الكثير من جوانبها، وربّما ستصبح هناك ثقافة جديدة تختلف عن ما قبل هذا الفيروس.
أما التأثيرات في الفن، فلم يتوصل فهمي إلى فكرة للوحة تقترب من معاناة الناس والحضارة الإنسانية وسلوكياتنا في زمن كورونا، متمنياً أن يستطيع تجسيد عمل يتناول فكرة من صميم هذا الموضوع الذي أذهلنا وأصابنا بدهشة وصدمة لم يسبق لها مثيل، لذا "عليَّ أن أقترب أكثر من الرمزية والتعبيرية لكي تكون أكثر اقتراباً من المشهد الحقيقي للأزمة والكارثة الإنسانية هذه".
 
حذر قاتل
في حين لا يدري المسرحي كاظم النصار ما الذي حصل بعد الوباء الذي حصل قبل قرن في العالم، ربّما حدثت تغييرات جوهرية، ومن ثمَّ فإن الفن انعكاس ساخن لكل المتغيرات مثل فن ما بعد الحرب العالمية أو ما بعد نكسة حزيران.. ما يمكن تأشيره هنا ان المسرح هو أسرع الخطابات استجابة للمتغيرات ومسرح ما بعد كورونا لا يغير نوع الكتابة النصية فحسب، بل سيغيّر العادات والسلوكيات ويضفي جوّاً من الحذر الدائم، وهو ما يضر المسرح المبني على أساس التقارب الاجتماعي، ناهيك عن أزمة إنتاج حادّة.. فعالم ما بعد كورونا سيكون معسكراً لبناء مشفى بدلاً من بناء مسرح ورويدا ستنتعش الفنون الفردية وإن بنطاق محدود، أما الحكايات النصّية فستكون صدى لهذا الرعب الذي عاشه وسيعيشه العالم.. ولكن كم النصوص المنتجة عن هذه الأزمة الحادّة؟ وأين ستجد طريقها في ظل أزمة اقتصادية قادمة؟
 
فن الألم
ويتساءل الكاتب والناقد حمدي مخلف الحديثي عن ماذا يعني إظهار الألم عبر الفن؟ ألم الروح والجسد، هذا الألم الصعب الذي يدمّرنا كلّما مررنا بمحنة. إن ألم اليوم هو ألم العزلة البيتية، حيث المكان المغلق الأليف، لكنه أصبح في زمن وباء كورونا غير أليف، ومن ثمَّ فإن تمثيل هذا الألم من خلال الفن أو الشعر أو الرواية يعدّ محطةً جديدة تشكّل إضافة إلى محطات الإبداع العراقي، سواءً من الزمن البعيد أو المعاصر.
إن المبدع العراقي؛ إن كان فناناً أو أديباً، سيقف وقفة تأمّل وإبداع في محنة كورونا وزمنها، لهذا سوف نجد أعمالاً تشكيلية ذات قيمة فنية وفكرية إلى جانب من يكتب الرواية أو الشعر.
ويضيف الحديثي: في المستقبل القريب سنرى ما لم نكن نتوقّعه، وذلك بسبب عزلة المبدع في البيت وتفاعله مع الحدث الذي شغل العالم بأسره. وان مواقع المعاناة الإنسانية التي يسجلها الفن أو السرد الروائي ستبقى في الذاكرة التوثيقية وتنال إعجاب الأجيال القادمة، بشرط وجود الإبداع..
وأقول: إن الضحايا والأحباب والأصدقاء المحزونين هم ثيمة الأعمال القادمة، وان لحظة الموت ستكون المحور الأساسي في أي عمل إبداعي، ومن يرى الميت لا يستطيع أن يفعل له أي شيء، بل إن الحي يهرب من هذا الميت الذي نال منه فيروس كورونا.