تخويف الذات

آراء 2020/06/17
...

محمد جبير
 
تزرع الأنظمة الاستبدادية الخوف في الذات الإنسانية حتى تديم وجودها، وتضمن استمرارها، لذلك تأخذ في حكم المجتمعات بالنار والحديد – كما يقال -، ويكون الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً مسكونا بالخوف، ويؤطّر حركته ونشاطه الإنساني والمعرفي والاقتصادي بهواجس دائرة الخوف التي تحيط بما يجعله "نملة" يمكن للسلطة سحقه في أيّ لحظة إذا ما خرج عن إجماع الطاعة والولاء للسلطات المستبدة والغاشمة.
ويزخر تاريخ المجتمعات البشرية بالعديد من النماذج التي تغلغلت فيها "صناعة" الخوف مؤسساتيا، وزراعته مجتمعيا في الذات الإنسانية، مما خلق مجتمعات سلبية ومنكسرة ومنكفئة على ذاتها، ولايمكنها النهوض بذات متحررة أو متجاوزة لمنطق الخوف وإن كانت بعض الفلسفات قد ذهبت إلى أنّ الخوف جزء من طبيعة الإنسان، ولكن ليس الخوف المكبّل لحركة الإنسان والمحبط لتطوره الحياتي والإبداعي، وتتفنّن الدوائر الناتجة عن الأنظمة الاستبدادية في خلق مؤسّسات الخوف عن طريق إشاعة أساليبها وطرقها ووسائلها في زرع الخوف والرهبة والخشية من عدم تقديم الولاء والطاعة للنظام.
فقد تبنّت المنظمات الإرهابية فلسفة إخافة الذات الإنسانية من خلال بثّ الأشرطة الفديوية عن الجرائم الإرهابية التي تقوم بها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتتفنّن في تقديمها بأشرطة فديوية وبتقنية تصويرية عالية لإخافة أكبر عدد ممكن من السكّان الذين يقعون تحت سيطرتهم، بما يجعلهم أداة طيعة في تنفيذ ما يرومون تنفيذه من عمليات إجرامية بحقّ أناس آخرين، فيما تصبح الذات الخائفة أداة لفعل انتقامي ونواة لزراعة خوف متجدد.
وتحتاج المجتمعات التي عاشت تجارب كهذه من "تخويف الذات" في زمن التحوّل والتحرّر من أدوات وعناصر "الخوف" إلى بيئة اجتماعية ملائمة تساعدها على تجاوز الخوف إلى البناء المجتمعي السليم الذي يحفظ للإنسان هيبته وكرامته وإنسانيته عبر مجموعة من القوانين التي تحفظ السلم الأهلي وتشعره بالطمأنينة والأمان في ظلّ المجتمعات الطبيعية بعيدا عن هيمنة السلاح المنفلت الذي يهدّد حياته في كلّ لحظة أو يحدّد تفكيره في زاوية ومنظور ضيّق لا يؤمن به ولا يستطيع الخروج منه أو التمرّد عليه.
لذلك تسعى الدول أو الحكومات التي تؤمن بالديمقراطية والخارجة توّا من سلطة أنظمة استبدادية إلى إعادة بناء الانسان وتأهيله نفسيا للخروج من دائرة الخوف إلى دائرة الاندماج والتفاعل الإيجابي مع المجتمع من أجل النهوض به وتجاوز المخلّفات المجتمعية لتلك الأنظمة القمعية، وهذه الخطوة المهمة والكبيرة هي من أولوليات التحوّل أو التغيير بعيدا عن التخوين والتسقيط والإزاحة والتهميش للآخر، إذ تبدأ هذه الخطوة بعمليات تشريعية "قوانين"، وتنفيذية إجرائية تفعّل تلك القوانين على أرض الواقع بحيث يلمس المواطن تأثيرها واقعيا في الأوساط الاجتماعية والسياسية والثقافية، إلّا أنّ هذه الأمور لايمكن لها أن تفعل على أرض الواقع إلّا بوجود مؤسسات دولة قوية تفرض وجودها وهيبتها على الجميع، وأن تكون قراراتها ملزمة وواجبة التنفيذ، لا أن تكون قرارتها ردّ فعل على تصرفات أو أفعال مجاميع خارج سلطة الدولة. إنّ المجتمعات التي تريد أن تخرج من دائرة "تخويف الذات" إلى دائرة "الذات الفاعلة" الإيجابية عليها أن تنبذ طروحات وأفكار وأفعال المجاميع التي لا تؤمن بالدولة وصيانة هيبتها وتزعزع الأمن والسلم الأهلي من خلال إشاعة الفوضى والرعب بين أفراد المجتمع بصورة عامّة ولا تؤمن أو ترغب في استقرار المجتمع، مما تدفع إلى الخراب والتمزّق المجتمعي وفشل مؤسسات الدولة في أداء واجباتها بصورة سليمة ورهن سياسة البلاد بالولاءات الخارجية وضياع القرار الوطني. لذا لا بدّ للمجتمعات الحرّة التي تريد البناء أن تحرّر نفسها أولاً من منطق "تخويف الذات"، والانطلاق نحو بناء الذات الإيجابية القادرة على المساهمة والمشاركة في البناء المجتمعي السليم لبناء مستقبل للأجيال المقبلة خالٍ من عقد ومخلفات الأنظمة الاستبدادية وأزمنة الفوضى والخراب والسلاح المنفلت، وهو ما تسعى إليه الشعوب الحرّة من خلال قيام الشرائح والنخب الاجتماعية الواعية والمثقفة بدورها الريادي والطليعي في زراعة القيم الإيجابية السليمة في النفس البشرية والتي تبدأ من المؤسّسات التربوية، من الروضة إلى الجامعات والمعاهد وفق مناهج تربوية علمية بعيدا عن المؤثّرات الجانبية التي تفرض من هذه المؤسسة أو تلك، وهذه المهمة ليست مهمة فردية أو مؤسّسة بعينها، وإنّما هي مسؤولية مجتمع ودولة في آن واحد، وأجد في هذا المقطع من قصيدة للشاعر "وسام هاشم" خير ختام لما نريد أن نقوله.
"من القتلة تعلمت ألّا أكون المقتول 
من الحدود تعلمت التحليق 
ومنك تعلمت عزلتي".