فرح الحصول على معنى

ثقافة 2020/06/20
...

 مالك مسلماوي
 
من خواص النص الشعري المعاصر خاصية عدم الانكشاف امام قارئ عادي كونه نصا (متمنّعا) لما فيه من رؤى عميقة ومدلولات خفية 
لا ينبئ عنها ظاهره بيسر , فالعلاقة بين الدال اللفظي والمدلول الذهني تبدو مموهة مطلقة ..  
واستثني في هذه الفرصة النص (المغلق) الذي لا يفضي الى شيء، ويشعر القارئ فيه بعدم الجدوى فيهمله ولا يعود اليه بينما برى مُنشئه انه قال شعرا والحقيقة هي محاولة فاشلة لا تمس حقيقة الشعر.. وهذا كثير في ما ينشر في الوقت الحاضر تحت عنوان قصيدة النثر وبخاصة في قنوات التواصل الاجتماعي.
و يبدو ان هناك قواسم مشتركة بين النصوص الابداعية جميعا، منها هو ما تمنحه من (متعة)، باعتبارها عنصرا ضروريا في تحقيق فنية النص، فان فُقدت فُقد معها التأثير في الذات المستقبِلة وتحوّل النص الى خبر مجرد خال من الاثارة وفاقد لهويته الابداعية..
مصطلح (لذة النص) وضعه (رولان بارت)*، اذ تتصل متعة النص بطبيعة التلقي على افتراض الشراكة بين المنشئ والمتلقي، ثم ان فرضية موت المؤلف تضع مسؤولية تحقيق نصوصية النص و غايته على ما يتمتع به المتلقي من أهلية في قراءة النص، فهو الباحث عن شيء يترك أثرا ما في الذات المستقبلة  يجسر العلاقة 
بينهما.. 
أما منشئ النص فهو ايضا متلقٍ ضمنيّ، يتلذذ بقراءة ما انجز و ينقل ما فرح به الى المتلقي. لكن الكتابة بحد ذاتها معاناة و جهد و صراع مع اللغة و محاولة مضنية  لتدجينها كي تكون قادرة على حمل ما يمور في الذات الناصّة ونقلها الى المتلقي فهي على هذا الاساس – اعني الكتابة – متعة مؤجلة.. وشُبّهت عملية انشاء النص بالولادة التي لا تكتمل الا بعد مخاض ومعاناة وألم، وبعد اكمالها تشع 
بالفرح.. 
بينما (رولان بارت) يعد الكتابة ممارسة لذائذية ذات احالة (ايروسية) فيعرف الكتابة بأنها جسد يتحدث الى 
جسد.
و قد ورد مصطلح (التلقي) في مدرسة (كونستانس) الالمانية و سمي بفرح الحصول على معنى .. والتلقي من بين ثلاثة اركان (مصطلحات) تخص الكتابة الابداعية، وهي المؤلف /النص/ المتلقي أو المرسل /الرسالة /المستقبِل.. والمهم في الامر هو ان يقوم كل ركن بمهمته على اعلى مستوى من الكفاءة، فالذات المبدعة تنتج نصا على درجة عالية من 
الابداع.. 
ولا تتم المهمة الا بوجود متلقِ كفءِ يمتلك الثقافة والخبرة وبعد النظرة للكشف ليس عما اراده المؤلف - كما في نص تقليدي لا ينطوي الا على بنيته الظاهرة وحسب - بل على المعنى الكامن في النص، والذي يطلق عليه في النقد الحديث (النص الغائب). فلكل نص بنيتان: بنية ظاهرة و بنية خفية، والقارئ الحصيف هو من يصطاد المسكوت عنه في النص وبذلك تتحقق المتعة التي هي احدى غايتين في 
الفن عامة: المتعة و المعرفة.
و في مقال مهم للشاعر الناقد  ت.س.اليوت  عام (1945) تحت عنوان"مهمة الشعر الاجتماعية" يقول: " واظن ان اول مهمة من مهمات الشعر هي على وجه اليقين اثارة المتعة، واذا سألني سائل أي نوع من انواع المتعة يثيرها الشعر؟ لا أملك سوى ان اقول " ذلك النوع من المتعة التي يثيرها الشعر"**. 
ويظهر من قول (اليوت) حكمان مهمان، الاول : ان اثارة المتعة هي مهمة الشعر الاولى (على وجه اليقين), فكل شعر غير ممتع لا يعد شعرا بالمعنى الحقيقي. الثاني: ان المتعة التي يثيرها الشعر لا يمكن وصفها و لا توجد الا في الشعر.
وقد سبق الى ذكر (المتعة) في الشعر العربي عبد القاهر الجرجاني، فهو اول من اشار الى الفرح والانس بالمعنى، كما اشار الى اهمية اهلية القارئ في قوله : "اذا كان لذلك اهلا.." بمعنى عدم تحقق المتعة ما لم يكن القارئ مؤهلا بما له من الدراية والذائقة و الذكاء.. 
"فالنّصّ الّذي يسرع إلى الفكر هو نصّ سهل لا يحتاج إلى قطع مسافة إليه، أمّا النّصّ الغائب فيحتاج القارئ معه إلى قطع مسافة".
 اذاً لا بد من المتعة في كل نص و لو تجرد منها كان جافا خاويا طاردا للقراءة و تلك صفة الكثير مما يغرقنا فيه اللا شعراء في كل العصور... وربما يطول الحديث عن (متعة النص) في الشعر لو استطردنا في مصادرها التي اقترحت لها عشرة مصادر سأذكرها واترك الحديث عنها لفرصة اخرى.. وهي : الصورة / المفارقة / الصدمة / اللعبة اللغوية / الايقاع / السرد/ المتعة البصرية/ المتعة البلاغية / الكشف / التخيل .
 
* (لذة النص) رولان بارت / ترجمة 
د. منذر عياش, / مركز الإنماء الحضاري عام 1992
**مقالات في النقد الادبي/ ت.س. اليوت/ ترجمة الدكتورة لطيفة الزيات/ مكتبة الانجلو المصرية ص45.