النص الموازي والتوتر التدريجي في {بائع القلق}

ثقافة 2020/06/21
...

عامر موسى الشيخ 
تمثل النصوص الموازية (العنوان) أو – العتبات النصية– على حد تعبير الفرنسي جيرار جينيت، التي تتصدر الأعمال الأدبية، المقدمة والمدخل الأول للعمل الأدبي، أو هي مفتاح الدخول لعوالمه، عبر فك شفيرته لحظة سقوط عين المتلقي عليه، وهذه اللحظة هي الكفيلة بعقد علاقة تفاوضية بين الكتاب والمتلقي، وبحسب صيغ هذه العنوانات وتراكيبها وتفاوتها تتحقق الإثارة والتوتر لديه، وكما يرى جينيت "فالعنوان هو ليس مجموعة كلمات تتوسط أعلى صفحة النص، بل هو نص تتناسل إيحاءاته الدلالية تبعا لنمطه ووظيفته.
فهو نص آخر يوازي النص الذي يقع تحته" ويوحي بشيء ما إلى طبيعة العمل وخفاياه، والمتمثل أيضا بالهوامش والشروحات والمقدمات والنصوص المُقتبسة للمفتتحات والفهرس، والصور والملحقات، ولوحة الغلاف  والإهداء وكلمة الناشر، وضمن هذا الإطار تعددت صيغ بناء العنوانات في الأعمال الأدبية، عبر بناء صيغ اختزالية موحية معبرة تثير لدى المتلقي
حساسية المعرفة وشغف الاقتناء، وتدخل في ذلك عوامل عديدة منها الدَور الذي تلعبه دور النشر، أو اجتهاد المؤلف نفسه في صياغة عبارات مُقتصده تثير 
القارئ.
وفي المجموعة القصصية "بائع القلق" الصادرة عن دار الرافدين 2018 للقاص أنمار رحمة الله، نجد أن العنوان يثير لدى المتلقي حساسية ما تبعث على التوتر ينبني النص الموازي في هذا العمل على 
خطابين داخلي وخارجي.
 
أولا: الخطاب الخارجي
 جاء الخطاب الخارجي في هذا العمل بصيغ تخلق توترا تدريجيا لدى المتلقي، وهذا ما يثير بحسب تعريف التوتر لدى علماء النفس "حالة من الإحساس العام باختلال التوازن على الصعيد النفسي يصحبه تأهب واستعداد من جانب المرء لتغيير سلوكه بغية التصدي لعامل يهدده في وضعية حقيقية أو متخيلة"، ويتأتى هذا من خلال العناصر التي كونت هذا الخطاب، من تربع العنوان الرئيس "بائع القلق" وسط الغلاف، والذي جاء بلون أصفر  خردلي، وهو لون يخلق التوتر الموائم للمبنى اللغوي للعنوان.
فيما جاء اسم المؤلف باللون الأبيض على اليمين ممثلا عن نفسه – الكاتب - في وصفه الصوت النقي الأبيض الراوي للقلق، وللعالم الغرائبي الفجائعي المعكوس في عوالم العمل، فيما جاء العنوان التجنيسي "قصص قصيرة" باللون الأبيض أيضا ومرقوما على مربع أصفر خردلي يشبه لون العنوان، وهو ما يدلل على براءة اللغة من رواية الحكايات داخل البناء النصي، بوصفها الوعاء الناقل لحكايات القصص، وهو ما يمكن  قوله في أنه انتصار للكاتب الذي يحاول السمو بلغته البريئة عن خراب العالم.
فيما جاءت الصورة المُزينة للغلاف شبحية وهو ما يثير التوتر ويصاعده تدريجيا في مستواها الأول من خلال اللون الرمادي القاتم، والذي يشبه إلى حد ما لون
البارود.
وفي المستوى الثاني للوحة فهي تمثل افتراض خراب عبثي مثيرا للرعب وقع  في مدينة ما، وسيعرف المتلقي تدريجيا، بأن المدينة هي لندن عاصمة بريطانيا محاطة من وسطها وأطرافها بأعمدة الدخان الموحي بالخراب الدستوبي المرعب، الأمر الذي  يمثل مصداق أي عمل فني في افتراض ما لا يمكن افتراضه على الواقع، شريطة أن يكون الواقع هو أساس استلال العمل، وهذا ما نجده ماثلا في العنصر الثالث من عناصر الغلاف الخارجي وهو الغلاف الأخير الذي حمل كلمة الناشر المانحة لمفتاح آخر لعوالم الكتاب، جاء فيها "في هذا الكتاب يسافر بنا القاص أنمار رحمة الله، في عوالم رحلة شائقة عبر عوالمه الخاصة.
من خلال رسم لوحات قصصية غرائبية. وشخصيات إشكالية يستلها من الواقع، إلى أن يقول: سيجد القارئ في قصص هذا الكتاب مدينة بعيدة وغريبة، ملامحها تشير إلى (دتستوبيا) خارج نطاق الزمان والمكان الواقعي، مشحونة بالغرابة والتوتر والقلق.. إلخ". تتقدمها صورة المؤلف وهو ملتحٍ بوجه باكٍ يحاول الابتسامة، وكأن الكاتب هو الناجي الوحيد بلغته عبر النص المكتوب من هذا تراكم الخراب. 
تعكس هذه العناصر جميعها مصداقا لعوالم المجموعة الغرائبية، إذ أن هذا الخطاب يقدم الرسائل للمتلقي، ويفك الشفرة الأولى للنص– النصوص-  في أنه
ليس عاديا وليس ألفيا وغريبا، إلا أنه من الواقع..
 
ثانياً: الخطاب الداخلي
 بالانتقال إلى المستوى الثاني من النصوص الموازية لهذا العمل، نجد أن المؤلف اقتبس مقولة للكاتب الأميركي (ديفيد سيداريس) وجعلها مفتتحا لكتابه "القصة القصيرة الجيدة، تنتزعني من نفسي، ثم تعيدني إليها بصعوبة، لأن مقاسي قد تغير، ولم أعد مرتاحاً بداخلي كما كنت قبلها".
هنا يبدأ التوتر بالتصاعد ويتيح للمتلقي في أن يسأل، هل قصص العمل جيدة، فضلا عن الرسالة المضمرة والواضحة في الوقت نفسه الذي تكشفه عبارة "لم أعد مرتاحا " فعدم الراحة هذا يأتي مكملا للقلق الأول والصورة الرمادية للمدينة على الغلاف، ومن ثم يبدأ التصاعد مرة أخرى، إذ أن الكتاب تقدم بالفهرس ولم يتقدم بالنصوص، الأمر الذي يُسهم في تصاعد التوتر لدى المتلقي، ولعل عنوانات القصص المدرجة في الفهرس تسهم أيضا في ذلك، فهو قد اختار ترتيب القصص داخل الكتاب وفقا لما ذهبنا إليه في تصاعد التوتر، فالقصة الأولى عنوانها "ضياع في المقبرة" والثانية "ثأر" والثالثة "خواتم" إلى آخر القصص التي تصدرتها عنوانات صادمة غريبة مخيفة باعثة 
للتوتر. 
إن أنمار رحمة الله وهو يواصل التأصيل لتجربته القصصية، استطاع أن يأخذ مكانا مميزا في السرد العراقي، عبر كتابة القص القصيرة في النمط الغرائبي، معتمدا على لغة سهلة واضحة تسحب متلقيها إلى الدخول في عوالمها، مبتعدا عن اللغة العالية المعمقة بالاستعارات، وهذا ما يدلل على أن أنمار كسر قاعدة أن القصة القصيرة بالعراق تُكتب بلغة شعرية، إلا أن انمار كتب بروح الشاعر المطبوعة المبتعدة عن التصنع، فاستعاراته كانت مضمرة في أفكار القصص وقوالبها لا في
 لغتها.