متى تغيب الدولة ومتى تحضر؟

آراء 2020/06/23
...

 حارث رسمي الهيتي
 
في البدء لا أقصد بمفردات - الحضور والغياب – التواجد والغياب المكاني، بقدر ما أعني بها النجاح وما يقابله، الإخفاق أو العجزُ او حتى الفشل، فحضور الدولة هو ما تستطيع أن تقدمه بوصفها دولة. وبعبارة أدق حضورها بوصفها ناظماً للأمة ومسيّراً للحياة اليومية، حضورها بوصفها جهازاً منبثقاً عن تلك الأمة/المجتمع، هذا الجهاز اصطناعي أنتجه المجتمع لا مفروضاً عليه،
ومن جملة التعريفات التي توصف هذه الكلمة (الدولة) أجدني أكثر ميلاً الى تعريف فردريك أنجلس الذي يؤكد أنها وليدة مجتمع ما في لحظة تطور وتورّط في آن واحد، والتورّط الذي يشير اليه انجلس يقصد به التضاد أو الانقسام الذي يحدث بين طبقات اجتماعية لكل منها مصلحته الاقتصادية التي تتنافى وتتقاطع وتتقاتل حتى مع مصلحة الآخر، مما يتوجب ايجاد طرف يقف فوق الجميع ويحتكم الجميع اليه، هذا "الفوق" الذي يستطيع أن يفرض نفسه على المتخاصمين كي لا يقضي أحدهم على الآخر أو يلتهمه حسب تعبيره، هذا الفوق الذي ينفصل تدريجياً عن المجتمع ويسمى دولة. 
إذن نفترض من هذا الانتاج أن لهذا الجهاز- الدولة – وظائف لا تكمن فقط في أن تتسيّد المجتمع وتقف فوقه، بل انها وبمرور الوقت سترسمه من جديد، ستعيد ترتيب أوراقه ومطالبه ومصالحه، وستناط بها مجموعة من الوظائف الأخرى والتي يفترض المجتمع أن تحققها له، وارتباطاً بسبب ظهورها الأول وسبب ايجادها من أنها سوف لن تسمح لأحد الاطراف المتخاصمين بالقضاء على الآخر وجب امتلاكها للعنف ووسائله، سيطرتها على أدوات القهر والقوة، لكن هناك ضرورة الى التفريق بين امتلاك وسائل العنف والقهر وبين استخدامها من دون رادع أو ضابط. فامتلاكها وحدها لهذه الوسائل هو ما يدفع المجتمع الى الانصياع لسلطتها وقراراتها حتى من دون أن تستخدمها احياناً، فالدولة لاتستطيع أن تواصل عملها ولا وجودها كدولة باستخدام العنف فقط، بل انها تحتاج وبقدر احتياجها لاحتكار وسائل القهر الى قبول اجتماعي، أو شرعية يمنحها لها المجتمع الذي تحكمه وتقف هي في ما بعد فوقه، هذه الشرعية أو هذا القبول هو السبب الرئيس لوجودها وهو ما يمنح قهرها وعنفها الشرعية بعد أن يؤمن بأن وجودها ضرورة لوجوده كمجتمع. وإن غيابها يهدد ذلك الوجود، وهذه العلاقة التي تربط الدولة بالمجتمع هي علاقة جد ضرورية ومهم توفرها.
ومن وظائفها ايضاً إثبات تمثيلها لذلك المجتمع أو الجماعة الوطنية حسب بعض التعريفات، وهذا يأتي عبر انتاج الدولة لسياقات من شأنها أن تعمل على تجانس ذلك المجتمع واندماجه بروابط تربطه مع الدولة إذ يتخلى طواعيةً عن روابطه القديمة القائمة على أساس القبيلة أو الدين، المذهب والطائفة والقومية، التخلي هنا بمعنى الاندماج مع الآخر سببه الانتماء لتلك الدولة والجماعة الوطنية لا بمعنى التنازل أو ترك ذلك الانتماء، أي اعتبار تلك الانتماءات شيئاً شخصياً لا تأثير لها على علاقته بالدولة أو بالآخر الذي يشاركه الرقعة الجغرافية تلك، وهذه تمثل وظيفة مهمة من وظائف الدولة التي لا تقل أهمية عن وظيفتها السابقة في احتكار العنف، وظيفة أن تحوّل جميع من يعيشون في تلك الرقعة الجغرافية الى مواطنين بعيداً عن أي انتماء آخر، فمتى ما اعتبر ذلك المجتمع ان الدولة ببنيتها وخطابها، بقراراتها ورؤيتها لا تمثله فإنه سيمتنع عن تنفيذ أوامر الدولة أو انها ستفتقد احترام المواطن لها بوصفها ناظماً لحياته.
حديثاً وحسب الباحث الراحل فالح عبد الجبار فإن من وظائف الدولة تقديم الخدمات، وهي اضافة حديثة لوظائف الدولة حسب عبد الجبار، وهذه الخدمات تشمل التعليم والأمن والصحة. فلا يمكن لدولة ما أن تقوم أو تحقق ذاتها كدولة من دون أن توفر لمواطنيها كل تلك الخدمات، على اعتبار أنها المتلقي الوحيد لكل الايرادات والمداخيل سواء كانت تلك الايرادات متأتية من الضرائب أو الريوع أو أي شيء آخر.
على بساطة ما تقدم، وحيث ان المكان لا يسمح بالإطالة، فإنه من الممكن أن نعد تلك الوظائف التي ذكرناها هي الوظائف الرئيسية التي يجب أن تضطلع بها أي دولة لتثبت وجودها، وعكس ذلك فإنها تنفيه، تنفي وجودها الحقيقي، أو يصبح وجودها شكلياً وهو بنظر مواطنيها وجود غير مرغوب به أو لا يعني له شيئاً، فما فائدة دولة لا تحتكر وسائل العنف بل تتركه بيد طبقات وجماعات وفئات تتقاتل فيما بينها في أي وقت، بل ومن الممكن أن تقاتل الدولة نفسها في لحظة تأزم لعلاقتهما في لحظة معينة؟ ممكن أن تنفي أو تلغي الدولة في مساحة معينة ووقت معين، أو أنها تلغي الآخر المختلف معها، وبهذا فقدت سبباً رئيسياً من أسباب وجودها أو إقامتها. 
وما الداعي لوجودها في الوقت الذي يجد كل مواطن أو مجموعة مواطنين أن في هويتهم الفرعية ضماناً لوجودهم وتعبيراً عن مصالحهم، سواء كانت تلك الهوية قائمة على أساس ديني أو إثني او مذهبي، ما الغرض منها وهي تفشل في وظيفة مهمة من وظائفها حين لا تستطيع أن تخلق من التعدد الذي يمتاز به ذلك المجتمع هويةً يتبناها الجميع ويتحوّل بفضلها كل الافراد والجماعات الى مواطنين لا يتميز أحدهم عن الآخر بفضل هويته الفرعية.